من وحي مجتمعات التضامن الاجتماعي
أحد الإنجازات الجبارة، التي أفرزتها سياسات الأنظمة الديمقراطية الدستورية في أوروبا، بناء مجتمعات متطورة وقائمة على أوسع قضايا الحياة الإنسانية حيوية وأكثر مجالاتها أهمية، حيث تمثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان جوهر القيم المشتركة في مجرى حياتها اليومية. ففي غالبية الدول المتقدمة في أوروبا الغربية، التي حرصت على بناء أنظمة وبرامج تقوم على تفعيل التضامن الاجتماعي، لأهداف تتعلق بتخفيف معاناة الناس من مختلف مظاهر الأضرار الاجتماعية والمظالم، وتضييق الفجوة الساحقة بين الفقراء والأغنياء في المجتمع.
ففي ألمانيا الاتحادية، التي تبنت سياساتها بقوة مشاريع الرخاء والعدالة الاجتماعية للجميع، منذ حقبة الخمسينيات من القرن الماضي وحتى اللحظة الراهنة، قدّمت الحكومات الألمانية المتعاقبة نماذج مثالية رائعة لمختلف مشاريع البناء والتنمية، في ظل نظام «السوق الاجتماعي» الذي تبناه وزير الاقتصاد الأسبق لودفيغ إيرهارد، وقامت بتخصيص قرابة 27 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لدعم النفقات الاجتماعية العامة، عبر تكوين شبكة اجتماعية شاملة، تحمي المواطنين من كافة التبعات الاقتصادية، التي يمكن أن تصيب الجوانب الأساسية المهمة في حياة المواطنين الألمان وكل الأشخاص المقيمين على ترابها، أو الذين يعملون فيها بشكل شرعي، وتمويل مشاريع الخدمات الاجتماعية العامة، التي تتضمن التأمين الصحي والتقاعدي والتأمين ضد الحوادث وحالات العجز والبطالة، من دافعي الضرائب، والتي تقارب نسبة الـ 50 في المئة من الدخل القومي.
أما في منظومة الدول الاسكندنافية الثلاث (السويد والدنمارك والنرويج) التي أصبحت فيها مجتمعات التضامن الاجتماعي متساوية تقريباً، بسبب التزام المواطنين بتنفيذ كافة القوانين والإجراءات المتعلقة بتسديد مدفوعات برامج الضمان الاجتماعي بشكل جماعي، حيث تشكل التأمينات الاجتماعية جزءًا مهماً من أنظمة الأمن الجماعية في المجتمع، وحيث يتفهم الناس مشاكل بعضهم البعض بشكل كبير.
كما أن التنوعات الإثنية والقومية، لعبت دوراً مشجعاً للمساعدة بين المجموعات المختلفة في تضييق حدة التفاوت في المجتمع، والتي أصبحت تتوق إلى أمن جماعي مشترك في مواجهة مخاطر الدخول في دوامة الأزمات الاقتصادية والمالية الشريرة. ففي جميع هذه الدول تقوم الحكومات المتعاقبة بدور كبير في تكريس وتعزيز «دولة المواطنة»، عبر تقديم مختلف الخدمات في كافة المجالات الإنسانية المتعددة، وخصوصاً قضايا الضمان الصحي والتقاعد والتعليم ورعاية الأطفال والمسنين، وتغطية نفقات البطالة والإصابات في العمل وإعانات العجز المؤقت والدائم، وتوفير الحماية الضرورية للعائلات. وهذا يعني أن بمقدور هذه الدول، أن تبني أنظمةً قويةً ضامنةً للرفاه الاجتماعي والاقتصادي والقطاع الخدمي العام، من دون أن تكبح نموها الاقتصادي، والذي ظلّ يعتمد بشكل مباشر على ضرائب المبيعات والاستثمار والضرائب المدفوعة من الأغنياء وأرباح بعض الصناعات المتطورة في مجالات النفط والسلاح والثروة البحرية والزراعية والحيوانية، والتسهيلات التجارية، التي ظلت تتميز بها البنية الأساسية في جميع هذه الدول، منذ ما قبل حقبة التغيرات والتحولات من مجتمعات الفقر والمظالم الاجتماعية غير المكبوحة، إلى المجتمعات الأكثر غنى ورفاهية اجتماعية وإقتصادية في العالم.
وعلى عكس مجتمعات التضامن الاجتماعي، التي تسعى بشكل دائم إلى تبني المزيد من الاصلاحات وتغيير البني المهترئة في أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والخدمية، تظل حكومات الدول القمعية حول العالم، مشغولة بصراعاتها الداخلية، ومواصلة إخفاقاتها السياسية والاقتصادية والتنموية، وتصليب مسارات نهجها التعسفي المشوه لنظام العدالة الاجتماعية وضمانات الرفاه الاجتماعي والاقتصادي، وتوسيع فجوات التفاوت الطبقي في المجتمع، وتمزيق روح الروابط التضامنية المشتركة والمتصلة بين الأشخاص، وتعميق سياسات الرشاوى والفساد، وتفضيل عامل القرابة القبلية أو الطائفية والمذهبية، على غيرها من عوامل الاندماج الوطني والتضامن الاجتماعي، وانسداد آفاق الانفتاح على الآخر، في غياب القوانين والإجراءات العملية التي من شأنها أن تحمي الناس من دوامة الأزمات والمظالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمالية. ولذلك فإن المواطنين في هذه الدول، بدلاً من أن يدافعوا عن ضرورة تفعيل الأنظمة الضريبية واستقرارها، وكذلك الدفاع بشكل قوي عن كافة الخدمات الاجتماعية التي تقدّمها الدولة للمواطنين بشكل مثالي، كما هو واقع الحال في مجتمعات «دولة التضامن الاجتماعي» المتحررة من كافة قيود الدكتاتورية والفساد والاستبداد، تتعمق في قرارة نفوسهم غريزياً حوافز التمرّد على الأنظمة السياسية الفاسدة والقمعية، في مسارات متصلبة وشديدة، وقد يتجه بعضها نحو دورات العنف والرعب والصراع المسلح في بعض الأحيان، كنتيجة متوقعة لغياب دولة المواطنة.