اغتيال حرية التعبير… من باريس إلى كوبنهاجن
بعد أن تعرضت باريس إلى هجمة شرسة ودامية، استهدفت صحيفة «شارلي إيبدو» الأسبوعية الساخرة، في يناير الماضي، أصر جهاز المخابرات الدنماركية، على أن مملكة الدنمارك تعيش في مأمن من الأعمال والحوادث الإرهابية الخطيرة جداً، وليس بإمكان عصابات الإرهاب والتطرف أن تعبث بأمن البلاد، وحرياتها الثقافية والفكرية والدينية، التي تفاخرت بامتلاكها على امتداد عقود، على غرار ما حدث في باريس وعواصم أوروبية أخرى، حيث أن دوائر الأمن الوطني لديها برنامج متطور يقوم على الحماية الأمنية العالية التقنية، التي تضمن أمن وسلامة المؤسسات والأشخاص.
ولكن لم تمض سوى بضعة أسابيع على حوادث باريس وتصريحات كبار المسئولين في أجهزة الاستخبارات الدنماركية، حتى تعرضت العاصمة كوبنهاجن، لهجمة إرهابية شرسة، في خطوة مفاجئة جداً، قلبت كل تلك التصريحات رأساً على عقب. وكانت بالفعل شبيهة، بتلك المأساة الصحافية الكبرى، التي وقعت في باريس.
ففي مساء السبت 15 فبراير/ شباط 2015، هزت العاصمة كوبنهاجن، التي كانت غارقة في أجواء احتفالات ومهرجانات «أعياد الحب» المليئة بأفراح السعادة والبهجة، هجمة «جاهلية همجية» نفذها أحد المسلحين المتطرفين. وقالت صحيفة «أكسترا بلادت» أنه مولود في الدنمارك ويدعي عمر الحسين (22عاماً)، وله سجل إجرامي في افتعال الحوادث.
الحادثة استهدفت قاعة مركز ثقافي، كانت تحتضن حلقة نقاش فكرية حول «العلاقة الجدلية بين الإسلام وحرية التعبير»، وكانت عبارة عن لقاء تضامني مع الصحيفة الفرنسية «شارلي إيبدو»، شارك فيها إلى جانب السفير الفرنسي لدي الدنمارك فرانسوا زيمراي، عدد من المثقفين والمفكرين والفنانين، وراح ضحيتها ثلاثة أشخاص بالقرب من مكان الحادث، الذي شهد إطلاق أكثر من أربعين عياراً نارياً. وتلاه هجوم آخر طال روح حارس مبنى كنيس يهودي، مع إصابة خمسة رجال شرطة، ومقتل الشخص نفسه الذي أطلق النار على قوات الأمن في ضاحية نوربرو، ذات الكثافة الشعبية الفقيرة. ويعتقد أنه المشتبه الأول في تنفيذ الهجومين السابقين في قاعة المركز الثقافي والكنيس اليهودي.
ورجحت مصادر الشرطة الدنماركية، أن يكون هدف العملية الإرهابية ليس فقط اغتيال رسام الكاريكاتير السويدي لارس فيكس، الذي سبق أن أثار زوبعة غضب واسعة للغاية في أوساط الجاليات والقوى الإسلامية، بنشر رسوم مسيئة للنبي محمد (ص) في العام 2007، بل أيضاً اغتيال حريات الفكر والتعبير والثقافة وحرية المعتقدات والأديان.
وقد وصفت رئيسة الحكومة هيلي تورننغ سميث، هذا الحادث الرهيب، بأنه «عمل إرهابي» وكتبت على صفحتها في «الفيسبوك»: «نحن نواجه اليوم أصعب الأيام وأكثرها قسوة وجسامة، بعد أن تعرضت بلادنا الآمنة، إلى عملية إرهابية، هي بمثابة اغتيال سياسي، والتي سيتم من خلالها اختبار وحدتنا وتماسك جبهتنا الوطنية».
وأضافت: «ستبقى بلادنا شامخة في مواجهة التطرف والعنف، ولن ننحني أبداً للإرهاب الذي تسبب في زهق الأرواح الآمنة والبريئة، واغتالت بأساليبها الهمجية، حريات الرأي والتعبير وحرية الأديان. وروحي ومشاعري تمتلىء الآن ببالغ الحزن والأسى على ضحايا هذه العملية الإرهابية».
ومن جانبه صرح وزير الدفاع الدنماركي نيكولاي فامين للصحافيين إن «الدنمارك لا تخيفها مثل تلك الأعمال ولن تتراجع أمام التهديدات الإرهابية… ونحن في هذا الوقت نقف متضامنين في وجه الإرهاب، وسوف ندافع عن الحرية والديمقراطية، ولن نحيد قيد أنملة عن طريق الحياة العادية المسالمة، التي اعتاد الشعب الدنماركي أن يعيشها على مر الأزمان».
أما ملكة الدنمارك، مارجريت الثانية، فتحدثت في بيان مقتضب أصدره ديوان القصر: «في مثل هذه الحالة الخطيرة نقف متحدين ومتضامنين في وجه الإرهاب، ونحيي شجاعة قوات الأمن وتضحياتها، وسنظل نعتز بقيمنا وحرياتنا المدنية والثقافية والفكرية والتعبيرية العريقة».
وفي أعقاب هذه الكارثة، صدرت إدانات أوروبية وعالمية واسعة، مندّدة بالهجمة الهمجية، التي استهدفت أرواح الآمنين الأبرياء والحريات، وتسببت في أجواء القلق المشوب بالخوف والذعر في أوساط المجتمع الدنماركي المسالم.
وقال رئيس المجلس الأوروبي، دونالد توسك، إن «أوروبا أُصيبت مرة أخرى بالصدمة من قبل ما يبدو أنه هجوم إرهابي وحشي استهدف قيمنا وثقافتنا والحريات الأساسية، بما في ذلك حرية التعبير وحرية الدين».
في هذا السياق، أدان كل من المجلس الإسلامي الدنماركي والإتحاد الإسلامي في الدنمارك، ومسلمون من أجل السلام، ومختلف الجاليات العربية والإسلامية واليهودية والمنظمات الديمقراطية والحقوقية في البلاد، الهجمة الإرهابية التي طالت المركز الثقافي والكنيس اليهودي، وعبّروا عن بالغ أسفهم وحزنهم العميق على سقوط جميع الضحايا، في وقت حرص فيه الجميع على التمسك بمفاهيم الوحدة الوطنية والإخاء والتسامح ونبذ مختلف مظاهر التعصب والتطرف. كما أدان الهجومين، الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، في بيان تضامني مع شعب وحكومة الدنمارك قال فيه: «لا يمكن تبرير شن هجمات ضد مدنيين»، وأضاف «نحن نجدد ضرورة الدعم القوي للتسامح وحرية التعبير».