التيارات التكفيرية ونبذ الآخر

استندت أفكار التيارات الدينية السلفية في العالم الإسلامي، بخصوص نشر الصحوة السلفية، على بناء دولة إسلامية كبرى مترامية الأطراف، يصل عمقها إلى مناطق بعيدة من العالم، وذلك بقصد حماية الناس من غوائل التجديد والتحديث وإفرازاتهما السلبية، وإنقاد شعوب الأمة الإسلامية، من مختلف مفاتن الحياة الدنيا، ومن مظالم الأنظمة السياسية الاستبدادية، وتحفيز الشعوب الأخرى على الدخول في دين الإسلام، أو فرضه عليها بالقوة عندما تتجنب كافة الدعوات والإنذارات، التي تطالبها باعتناق الإسلام.

غير أن كل الأفكار السالبة، التي روّجت لها هذه التيارات بخصوص نشر الفضيلة ومقاومة الرذيلة والإلحاد وضياع الشباب في متاهات الحياة الدنيا وعبثها ولهوها، لم تتلاءم وتنسجم في كل الأحوال مع روحية العصر وتطوراته الهائلة على مستويات العلم والتنوير والحداثة والفكر والعدالة الاجتماعية والشورى المجتمعية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وكانت خلاصتها أن فكر ونهج وممارسة تلك الصحوة السلفية، التي أرادت بها تلك التيارات بناء دولتها المنشودة، حتى الآن ليست سوى مجرد أوهام وغداء مجاني للأفكار المتشددة والمتطرفة والإرهابية، وتحقير وتهميش وإقصاء المذاهب والمعتقدات الأخرى المختلفة معها في مسائل الفقه والرأي، ورفض الآخر ثقافياً ومذهبياً، وعدم مشاركته حتى في أبسط المسائل، التي يجوز فيها تعدد الآراء واختلاف المفاهيم. ورهان حاضرها ومستقبلها على التعصب والتطرف والاستفراد بالرأي والقرار، والتغرير بشباب الأمة وتشجيعهم على تبني الأفكار العقيمة والدفع بهم دفعاً لخوض القتال والحروب الضروس ضد الملحدين والمشركين واليهود والنصارى.

وهذا يعني أن كل أفكار تلك الصحوة المزعومة من أجل حماية الناس من غوائل التحديث والتصنيع ودعم المستضعفين وحماية دينهم وأرزاقهم من الضياع، وبناء الدولة الإسلامية المنشودة، لم تؤدِّ إلا إلى كبت تلاقي الثقافات والأديان، وكبح تنامي دولة النظام والقانون والعدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، التي أصبحت عنوان المشاركة الجماعية في المشورة والرأي والتآخي والوئام والأمن والسلام والاستقرار في العصر الراهن.

فدولة «داعش» الإسلامية المزعومة، التي أسست أركانها على الفكر السلفي الأصولي، أغرقت دول المنطقة المستقرة بفوضى التطرف والإرهاب وسفك الدماء وتحريم الديانات الأخرى ورفض قبول فكر الآخر، وتجافي المنطق الواقعي، ومحاربة العلم والتطور التكنولوجي والصناعي والإبداعي والنمو والازدهار وتلاقي الحضارات.

وقبل تأسيس أركان هذه الدولة المزعومة، لم يكن أحد في العالم يعرف حجم الكوارث الإنسانية، التي تتسبب بها أفكار وتوجهات التيارات السلفية في مختلف المجتمعات الإسلامية، وقبل أن تعلن تلك التيارات عن مشاريع الجهاد في أفغانستان ومناطق البلقان والشيشان، لم يكن أحدٌ يعلم بالمجازر الدموية الوحشية، التي راح ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء من أبناء تلك البلدان على أيدي «المجاهدين» والمحاربين السلفيين ضد المشركين والكفار، في الوقت الذي تجاهلوا أبرز قضايا المسلمين المركزية المتمثلة في تحرير القدس وفلسطين، من قبضة الاحتلال الصهيوني، الذي ظل جاثماً على صدور المسلمين في تلك الأرض المقدسة، ولم يذرفوا حتى دمعة واحدة على كثرة الضحايا والدمار الكارثي الرهيب، الذي حلّ بشعب هذا البلد العربي الاسلامي.

وبناءً على كل ما ظلت تروّجه الصحوة السلفية من أفكار وتوجهات وممارسات، شوهت سمعة المسلمين والإسلام، بنتاجاتها المخجلة، لمئات الآلاف من الجهاديين والتكفيريين والمتطرفين والانتحاريين والجهلة المتخلفين والمفسدين في الأرض، فإن صحوة هذه التيارات تشير إلى أن الخوف من الإسلام في الغرب وأماكن أخرى في العالم، هو أمر قد يفوق الخيال والواقع، وبذلك تضامنت الشعوب العربية والإسلامية والأجنبية على حد سواء، لمواجهة ذلك الفكر الظلامي التكفيري، ورفض الإرهاب بمختلف أشكاله ومصادره، وتحالفت مع بعضها البعض على محاربة ما يسمى «بالدولة الإسلامية في العراق والشام» وغيرها من الحركات والتنظيمات السلفية المماثلة، التي تمرّست وأبدعت في فنون تكفير الغير، وقامت بممارسة أبشع أعمال التحريض والتعسف والسبي وقطع الأعناق والفساد والاستبداد وفرض الجزية والقتل، بعيداً عن روح الإسلام الحقيقية، التي تحمل رسالة روحية جبارة، تدعو إلى احتضان مفاهيم السلم والإخاء والمودة والمحبة والتسامح وقبول الآخر واحترام الثقافات والأفكار الحرة والمتطورة والمتجددة، ونبذ الفرقة والخصام والاقتتال وزهق الأرواح البريئة من دون وجه حق، وبعيداً أيضاً عن واقع الحياة الحضارية العصرية الملهمة، التي تتصارع فيها الأفكار والمعتقدات والتوجهات والتطلعات والثقافات والقيم الروحية والإنسانية والأخلاقية، والتحولات الجذرية، الهادفة إلى بناء الدول والمجتمعات المسالمة والعادلة والمنصفة.

واليوم ينظر المجتمع الدولي برمته، إلى تيارات السلفية الجهادية، التي تخوض القتال الشرس ضد من تعتبرهم أعداء المسلمين والإسلام، في كل مكان في العالم، بأنها مجرد تيارات جاهلية ومنافقة وتحمل الرعب لخصومها لمجرد أنهم يختلفون معها في تطبيق أصول ومفاهيم العقيدة والرأي، وأن بمقدورها سحقهم وترويعهم والانتصار عليهم، كما انتصرت على أعدائها في أفغانستان، وألحقت بالقوات الأميركية والغربية هزيمة ماحقة في العراق، وأنها بلغت الآن من القوة ما يجعلها تلحق الهزائم الساحقة بكل أعدائها في كل مكان في العالم.

بالمناسبة، بعض رجال الدين المعتدلين، يصفون تيارات السلفية الجهادية بأنها مجرد «وحش مفترس»، ولا تمت أفكارها وممارساتها العبثية والوحشية، بأية صلة بتمثيل الإسلام ونشر الرسالة النبوية المقدسة المتجدّدة، في كل زمان من الأزمنة، وأن غروب شمس هذه التيارات المضللة والمشوهة، بدأ عند إعلان قيام «دولة داعش» المرعبة التي ما برحت تتحدث باسم المسلمين والإسلام، وتدعي أنها وحدها حامية حمى الشريعة الإسلامية ومقدساتها، ورافعة لواء الإسلام في وجه المختلفين معها في العقيدة والممارسة والثقافة والرأي، وكل من تعتبرهم من غير المسلمين في كل مكان في العالم.

Loading