محنة اليونان… والطبيب المعالج

شكلت الدويلات والمدن الإغريقية (اليونانية) في الأزمة القديمة، محطة تجارب العلم والسياسة والاقتصاد، في أقدم حضارات الغرب وربما في العالم بأسره، حيث انطلقت من رحم هذه المدن والدويلات، أبرز نظريات الكون والحياة والمجتمع، على أيادي كبار الفلاسفة والمفكرين والشعراء والفنانين والمبدعين، أمثال أرسطو وأفلاطون وسقراط وفيثاغورس وانماثون وغيرهم من الرجال العظام، الذين سطروا تاريخاً طويلاً وحافلاً بكل روائع الثقافة والفكر والإبداع.

اليوم، وبعد صراع أجيالهم الحاضرة من أجل البقاء، في ظل تداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية، التي عصفت ببلادهم خلال الفترة الأخيرة، يبدو أن المواطن اليوناني، قد تناسى ولو بشكل مؤقت، موروث العمالقة الأوائل ومآثرهم الإنسانية والإبداعية، وانهمكوا في البحث عن لقمة العيش والحياة الكريمة، بعد أن عجزت الدولة عن توفير متطلبات الحد الأدنى لحياة المواطنين الكريمة، وفشل كافة الجهود الوطنية والأوروبية، في تحقيق أي تقدم ملموس على صعيد إخراج اليونان من أشد محنة اقتصادية واجتماعية في تاريخ البلاد الحديث.

وتعتبر قضية اليونان نموذجاً واضحاً على الحلقة المتسعة للأزمة الاقتصادية الكبرى والخطيرة، المحدقة بالاتحاد الأوروبي، والتي أخذت غالبية أعضائه ولاسيما في بلدانه الشرقية، تشد الأحزمة على البطون، وتستعد لمواجهة ما هو أسوأ من مخاطر الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة.

ومنذ دخول اليونان في أزمة الديون المالية، قبل عدة سنوات، وخلال حملة الاستفتاء على رفض الشروط الصعبة للجهات الدائنة، وهي المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، التي قادها رئيس الوزراء الحالي أليكسيس تسيبراس في 5 يوليو/ حزيران 2015، وصوّت لها غالبية شعب اليونان (61.31 في المئة) بكلمة «لا» لجميع الشروط الأوروبية والدولية «المذلّة» في شأن القروض المالية. أصبحت اليونان، موضع تساؤل حول مستقبلها في منطقة اليورو، وكذلك عضوية الاتحاد الأوروبي، ومع ذلك، وعلى الرغم من حزمة الإنقاذ الجديدة، التي قادتها ألمانيا في الجولات الأخيرة من المفاوضات الرامية إلى بقاء اليونان في حظيرة الاتحاد الأوروبي، فإن البلاد مازالت تواجه مشاكل كبيرة تقلق المجتمع اليوناني جميعاً، ومن أبرزها على الإطلاق، توسع مظاهر الفقر، وبحث البعض عن كسرة الخبز على قارعة الطريق، ومضاعفة معدلات البطالة وخصوصاً بين الشباب وأصحاب المؤهلات العلمية. كما أن هناك الكثير من مظاهر الفساد والرشى والمحسوبيات، التي ظلت تتغلغل في مختلف أجهزة الدولة الرسمية، في الوقت الذي يتهرب فيه أثرياء البلاد عن دفع مستحقاتهم الضريبية العامة. ولم يتردد وزير المالية اليوناني المستقيل يانس فاروفاكس، من إخفاء حقيقة أن المواطنين اليونانيين، أصبحوا في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة «عبيداً لدائني البلاد»، ودعا إلى اتفاق يتضمن جدولة الديون وتخفيف مستويات التقشف وإعادة توزيع الثروة بشكل عادل وإجراء إصلاحات حقيقية شاملة.

ولكن على الرغم من وصول خزينة الدولة اليونانية إلى حافة الإفلاس التام، يلوح في الأفق بصيص أمل، بشأن معالجة أسباب تلك الأزمة، والتي تذوقت خلالها البلاد «الدواء المر» على امتداد الأشهر الأخيرة، وبقاء اليونان عضواً نشطاً في منطقة اليورو، وذلك من خلال متابعة المفوضية الأوروبية، أهدافها التي تتضمن البحث عن حلول واقعية وجديدة تكون كفيلة بتصحيح الأوضاع الاقتصادية المأزومة، وإنقاذ اليونان من هذا المأزق الخطير التي تتخبط فيه بقوة.

Loading