بريطانيا بحاجة لرؤية استراتيجية واقعية تجاه أوروبا
لا تخفي المملكة المتحدة طموحاتها وتطلعاتها المتمثلة في أن «تصبح هي الدولة الوحيدة الرائدة» في أوروبا، ولذلك يلاحظ على سبيل المثال فجوة تتزايد بشكل مستمر بين لندن وعدد من العواصم الأوروبية، كما هو الحال مع مفوضية الاتحاد الأوروبي نفسه، حول عدة أمور جوهرية متعلقة بسياسات الإتحاد على مختلف المستويات الاقتصادية والعسكرية والأمنية.
هذه الفجوة المتزايدة بين الجانبين ربما يفهم منها إذا ما توسعت نبرة الاختلافات وخسرت لندن الرهان على تغيير بعض السياسات، التي مازالت تعتقد بأنها أصبحت مقيّدةً لحياة الأوروبيين أكثر مما كان متوقعاً، وحظيت باستعادة بعض السلطات، التي تخلت عنها لمصلحة الاتحاد، فإنه سوف لن يكون أمامها في النهاية، سوى الانسحاب من عضوية الإتحاد الأوروبي، الذي تصفه اليوم بأنه أصبح بمثابة «الحصان الأعرج» الذي يحتاج إلى جرعة دواء قوية للشفاء.
وقد عكست كافة الطموحات البريطانية، بالانسحاب من عضوية الإتحاد الأوروبي، تصميم رئيس الحكومة ديفيد كاميرون، على المطالبة بإجراء استفتاء شعبي عام في نهاية العام 2017 يقرّر من خلاله الشعب البريطاني بقاء البلاد في فلك الاتحاد أو الانسحاب منه بعزة وكرامة.
وبناء على تاريخ البريطانيين وثقافتهم التقليدية الموروثة، منذ الأزمان الغابرة، وتعصبهم الشديد للقومية البريطانية، فإنه إذا ما استمرت سياسات الإتحاد الأوروبي على نحو لا يلبي رغباتهم وطموحاتهم الواسعة، فإنهم سوف يستجيبون بشكل سريع لكافة الدعوات، التي تحثهم على التصويت «بنعم» لصالح انفصال بريطانيا عن الاتحاد.
وعندها سوف تقبل غالبية الأحزاب والقوى البريطانية المعارضة لفكرة الانسحاب من «البيت الأوروبي الموحد» بلا شك بمبدأ الأمر الواقع، الذي سيفرضه خيار الإرادة الشعبية، رغم قناعات البعض بعدم جدوى خروج بريطانيا من الاتحاد، على اعتبار أنه من الضروري جداً أن تبقى كقوة كبرى ورائدة، داخل الأسرة الأوروبية الموحدة.
وفي هذا المجال، صرّح وزير الخارجية البريطانية وليام هيغ، خلال جولة موسعة في أوروبا، «أن الجمهور البريطاني لم يشك في جدوى الوحدة الأوروبية أكثر من الوقت الراهن».
ومن جانبه، قال عضو مجلس العموم عن حزب المحافظين دوغلاس كارسويل: «لم تعد فكرة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي بعيدة الاحتمال، وهي لم تعد الآن وجهة نظر هامشية يقتصر تبنيها على بضعة أشخاص، بل أصبحت تياراً عاماً في ربوع البلاد».
وفي الجانب الآخر، يرى حزب الديمقراطيين الأحرار، الذي يمثل ثالث قوة سياسية في البلاد، بأن بريطانيا يمكن أن «تضر نفسها» إذا ما قبلت بفكرة انفصالها عن الإتحاد الأوروبي، خصوصاً أنها تعيش الآن في دوامة من المشاكل الاقتصادية والأمنية المستمرة؛ وأن التجاوب مع مثل هذه الخطوة الصعبة يمكن أن يهدّد تعافي الاقتصاد البريطاني ويخلق المزيد من الأزمات والقلاقل السياسية والاجتماعية العامة.
وأما بالنسبة لحزب العمال، الذي يعتبر بمثابة «حكومة الظل» في بريطانيا، فإنه لايزال يقف موقف المعارض القوي لفكرة الانفصال التي يرى أنها إذا ما تحققت و»انتصرت» عملية الاستفتاء المرتقب في نهاية العام 2017، فإن ذلك لن يخدم التطلعات البريطانية، في تكريس وتعزيز عوامل الوحدة التامة والاستقرار والأمن الشامل في أوروبا، وستبقيها في معزل عن مختلف قرارات الإرادة العامة الأوروبية، ولكنه بالتأكيد سوف يؤيّد تلك الفكرة، إذا ما حدثت هناك اختلافات واضحة في ميزان القوى بين لندن وبروكسل.
وقرار الاستفتاء هذا، تعهّد به رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، خلال الدعاية الانتخابية لحزب المحافظين في الانتخابات التشريعية الأخيرة، حيث قال: «إذا فاز حزب المحافظين بأغلبية كبيرة في هذه الانتخابات، فإنه سيجري استفتاء على خروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي في نهاية العام 2017». وكانت الغاية من هذا الإعلان، هو العمل على استقطاب تيارات وشرائح واسعة النطاق في المجتمع، بقصد الحصول على أعلى نسبة ممكنة من أصوات المقترعين البريطانيين، التي كانت غالبيتهم تخشى من توسع نفوذ قوى أخرى قوية في الاتحاد مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا على حساب «بريطانيا العظمى» القوية بصناعاتها وأعتدتها العسكرية والأمنية، والمرشّحة لأن تكون «ٌأقوى دولة اقتصادية في أوروبا بحلول العام 2030».
ومعها بطبيعة الحال جملة المخاوف، التي بدأت تنتابها من توسع أزمة الديون الأوروبية، وصعود الفترات الصعبة والقاسية، الذي أخذ يترنح فيها الاقتصاد الأوروبي برمته، إضافةً إلى كل ذلك، تصاعد القلق المستمر من جانب المحكمة الدولية لحقوق الإنسان، التي تقود حملة واسعة النطاق ضد الحكومة البريطانية، بسبب انتهاك بعض الحريات وخصوصاً في قضايا الهجرة والمراقبة الأمنية المشددة على حرية التنقل وحقوق العمالة الأجنبية العاملة في البلاد بمختلف مستوياتها الشرعية وغير الشرعية، والمنصوص على احترامها في قوانين وإجراءات المفوضية الأوروبية.
واليوم تحاول بريطانيا، أن تنأى بنفسها بعيداً، عن تحمل كافة المسئوليات التي قطعتها على نفسها أمام الجماهير البريطانية، عندما تعهّدت باستمرار الشراكة القوية والتضامن التام مع جميع دول الاتحاد الأوروبي، وتضع هذا الاتحاد المربك أمام مفترق طرق وخيارات صعبة، من شأنها أن تخلخل أركان «بيت التحالف الأوروبي» بأكمله.
وتلتقي عدة آراء لمحللين في الشأن السياسي والاقتصادي الأوروبي، بأن على بريطانيا أن تختار طريق التلاحم والتضامن المشترك مع أشقائها الأوروبيين، الذين يحتاجون لدعمها ومساعداتها في أوقات المحنة، بدلاً من خيار العزلة، الذي لن يصل بها إلا إلى نهايةٍ يمكن أن تأسف عليها كثيراٍ، في فترات محرجة خلال سنوات المستقبل.