مفارقات السياسة في انتخابات الدنمارك

سجّل فوز تكتل اليمين الليبرالي في الدنمارك، بالانتخابات التشريعية المبكرة للعام 2015 عودة «السياسة اليمينية المتشددة والمتطرفة» تجاه المهاجرين واللاجئين وقضايا الاقتصاد والحدود في نطاق الاتحاد الأوروبي، والتي كانت موضع جدل بين أحزاب السلطة السابقة، التي تمثل أحزاب يسار الوسط الراديكالي المعروف بـ»تكتل الحمر»، بقيادة زعيمة الحزب الاشتراكي الديمقراطي ورئيسة الحكومة هيلي توننغ سميث، وأحزاب المعارضة اليمينية الليبرالية، المعرفة بـ»تكتل الزرق» بقيادة زعيم حزب اليسار الليبرالي ورئيس الحكومة الدنماركية الأسبق لارس لوكي راسموسن، منذ فترة طويلة حتى بعد الإعلان عن إجراء الانتخابات المفاجئة، والتي شهد انطلاقها معارك ضارية بين التكتلين، على نحو لم يسبق له مثيل في تاريخ الدنمارك التشريعي.

فاز تكتل اليمين المعارض في الانتخابات بفارق مقعد واحد فقط في البرلمان (89 ـ 90) بينما تعرض مرشحو أحزاب الائتلاف الحاكم من غير الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي حقق أكبر الانتصارات بحصوله على 47 مقعداً في البرلمان المكوّن من 179 مقعداً، إلى صفعة موجعة وقاسية، كانت أشبه بالصاعقة، التي عصفت بقياداتها وأعضائها وكل أنصارها وقواعدها الشعبية.

ووسط أجواء التحولات المثيرة نحو اليمين المتشدد على الساحة الدنماركية، سيطرت حالة عامة من القلق على مستقبل البلاد السياسي، خصوصاً أن حزب الشعب اليميني المتطرف والمناهض للهجرة وللإتحاد الأوروبي، قد تصدر قائمة أحزاب تكتل اليمين برمته بعد فوزه بـ37 مقعداً من مقاعد البرلمان، مضيفاً إلى رصيده السابق (15 مقعداً)، واعتباره ثاني أكبر الأحزاب السياسية في الدنمارك، بعد الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي تصدر المشهد بفوزه بــ26,8 في المئة من الأصوات، وخرج من مهمة تشكيل وزارة جديدة، متحملاً عبء شركائه الخاسرين.

وكان حزب الشعب اليميني المتطرف، والذي ظل مرتبطاً بقوة كبيرة مع سياسة الأحزاب اليمينية العنصرية في أوروبا، بعد حصوله على نسبة كبيرة من الأصوات في استطلاعات الرأي، التي سبقت موعد الانتخابات، قد قدم لكوادره وأعضائه وقواعده وناخبيه قائمة طويلة من الوعود والمقترحات والبرامج، التي يريد طرحها، كما سعي لدغدغة الروح القومية في نفوسهم على أنه المدافع عن سيادة البلاد وخصوصية مجتمعها، في وجه الهجرة والاتحاد الأوروبي، ولكنه بعد ذلك ظل يمارس لعبته السياسية المفضلة، وهي بقاؤه خارج الحكم، ليكون باستطاعته الضغط على الحكومات القائمة، لتمرير مشاريعه وبرامجه المكشوفة، التي تعهد بتحقيقها أمام ناخبيه، وأمام أقرانه الداعمين من أحزاب اليمين المتشددة والمتطرفة في أوروبا وخارجها.

وبينما عجز زعيم حزب «اليسار» ورئيس تكتل اليمين الليبرالي المكلف بتفويض من ملكة الدنمارك لتشكيل الحكومة الجديدة لارس لوكي راسموسن، والذي اعتبر حزبه أكبر الخاسرين في هذه الانتخابات، بعد تراجع شعبيته وخسارته 13 مقعداً من مقاعد البرلمان السابق، عن تشكيل حكومة أغلبية تقود مرحلة السياسات الجديدة في الدنمارك، في ظل الخلافات على المسائل الأساسية والجوهرية، يحاول التكتل اليساري، التخفيف من وقع ما حدث بالقول إنه ذهب إلى صناديق الاقتراع على أسس صحيحة وتبني الحلول الأكثر صدقيةً نحو إدارة الأمور في البلاد. ويراهن على عامل الوقت تجاه فشل الحكومة اليمينية الجديدة، في تماسك قدرتها الذاتية وتوظيف انتصارها في الانتخابات لجهة الاهتمام بالمصالح الوطنية العليا.

رئيسة الحكومة السابقة هيلي توننغ سميث التي كانت أول امرأة تتسلم مقاليد رئاسة الوزراء في البلاد، قالت إنه يتعين على الحكومة التي خلفتها أن تتحمل مسئولية الدفاع عن قيم الديمقراطية والحرية، والتوقف عن تعطيل برامج الاصلاح والمساهمة في إقرارها. في الوقت الذي عبرت فيه بعض القيادات السياسية، وشرائح وفئات واسعة من الشعب عن قلقها تجاه الشعارات المتطرفة، التي يتمسك بها حزب الشعب الدنماركي الشريك في التحالف المنتصر. فيما علقت زعيمة حزب الشعب الاشتراكي بيا أولسن ديهر، بأن البلاد سوف تعيش سنوات «معتمة» في ظل حكومة يمينية ليبرالية متشددة وحزب متطرف يناهض قضايا الهجرة، ويسعى لتشديد الرقابة على الحدود، ووقف تدفق اللاجئين، ويعمل على تخفيض الإنفاق على القطاع العام، والتحالف الوثيق مع أحزاب اليمين المتطرفة في أوروبا.

لقد وجهت انتخابات الدنمارك الأخيرة ضربةً قاسيةً ومدويةً، لأحزاب اليسار التقليدي ويسار الوسط والراديكال، وجميع من كانوا يأملون بالرخاء الاقتصادي والسلم الاجتماعي، وإعادة بناء دولة الرفاه بشكل أفضل.

Loading