يجب ألا تخجل أوروبا من أفعالها
شعارات المثل الإنسانية والأخلاقية، يجب إعادة النظر بها مرة ثانية وثالثة، والاتفاقيات الأوروبية الملزمة تجاه اللجوء والهجرة، يتعين على دول الاتحاد الأوروبي، الاستعداد لتغييرها بشكل واقعي وسريع.
وأن ما سيحدث إلى أوروبا برمتها في المستقبل، نتيجة تصاعد موجات الهجرة العاتية، ستقلب حياة المجتمعات الأوروبية الأصلية رأساً على عقب، وستبدل عادات وتقاليد وقيم وتراث وثقافة أوروبا الموغلة في القدم، بعادات وتقاليد وقيم وتراث وثقافة مجتمعات أخرى مازالت تعيش حياة القرون الوسطى وعصور الظلام. وإن أوروبا، لم تعد بعد هذا الطوفان الجارف من المهاجرين واللاجئين، إلى أية مبالغة إضافية في تخليد، مثلها وقيمها الإنسانية والأخلاقية، التي كانت على امتداد عدة قرون من الزمن، بمثابة ركيزة مهمة من ركائز تطورها وتقدمها وازدهارها. فأية خطوة تتخذ بخلاف ما هو قائم على أرض الواقع، منذ ذلك الوقت وحتى اللحظة الراهنة تحت ضغط الظروف والمستجدات، فهي قد تسلبها كل يوم تقريباً جزءاً من هويتها الوطنية وطابع ثقافتها التقليدي ومنابع تراثها واستقرار أمنها وحتى اقتصادها المزدهر. بهذا كله بدأ ينطلق تفكير العديد من كبار المسئولين السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين، في بعض عواصم دول الاتحاد الأوروبي، الذين شعروا بأن مضاعفات اللجوء والهجرة غير الشرعية، إلى بلدانهم أصبحت أكثر خطورة وحدّة، على حاضر ومستقبل القارة الأوروبية برمّتها. ففيما أصبحت قوافل المهاجرين واللاجئين، من مختلف مناطق التوتر في العالم، تقتحم أسوار وقلاع أوروبا المحصنة، ترتفع هناك في مختلف أوساط المجتمعات الغربية، أصوات المطالبين بوقف تدفق موجات اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين، التي قد تحدّ من قدرة بلدان الاتحاد الأوروبي كبيرها وصغيرها من استيعاب جموعها تحت ضغط الظروف والإمكانات الاجتماعية والأمنية والاقتصادية الصعبة، وبهذا بدأ البعض يرفع بقوة هذا الشعار الصريح «يجب ألا تخجل أوروبا من مواقفها المتشددة والقوية والحازمة من قضايا اللجوء والهجرة» التي أصبحت اليوم واقعاً قائماً على الأرض، ومضاعفاتها السلبية الكاملة لا يمكن التنبؤ بها.
وعلى رغم حرص كبار المسئولين في حكومات دول الاتحاد الأوروبي، على تكرار التأكيد على جدية اهتمامهم بقضايا حقوق الإنسان، وتنفيذ التزاماتهم الوطنية والأوروبية والدولية، ذات الصلة بمعالجة أزمة اللاجئين، من خلال الوسائل القانونية والإجرائية المكرسة في نصوص الاتفاقيات الأوروبية والدولية، حول الهجرة، فإن تطور الخلاف بينهم خلال الأسابيع الماضية بشأن تقاسم حصص المهاجرين، وكيفية العمل بتطبيق القواعد والإجراءات المتعلقة باتفاقية «دبلن» الأولى والثانية، تعكس نوعاً من الإحباط والتخبط حيال أزمة المهاجرين واللاجئين، وتداعيات أوضاعها الأخيرة، التي صعقت أوروبا، يمكن اعتباره بداية التمهيد لصراع طويل الأمد بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، قد يؤدي إلى زعزعة تماسك الاتحاد وتعزيز وحدته، التي هي أصلاً تعاني من شروخ عديدة. ففي حين يصر قادة دول جنوب وشرق القارة بالإضافة إلى بريطانيا، على الاستمرار في السياسات الأوروبية، التي كرستها اتفاقية «دبلن» الحالية، لمكافحة تدفق موجات اللجوء والهجرة غير الشرعية من دون تغيير، يرى زعماء الدول الأخرى في الاتحاد، وخصوصاً ألمانيا وفرنسا، بأن عليهم واجبات إنسانية وأخلاقية، تجاه الناس الذين يعانون من الاضطهاد والحرمان وويلات الحروب والكوارث الطبيعية المفجعة، وفي الوقت نفسه، الذي ظل يتهم فيه، وزير خارجية فرنسا لوران فابيوس، ونظيره الألماني فرانك شتاينماير، دول شرق أوروبا وخاصة هنغاريا بعدم احترام القيم والقواعد الأوروبية في تعاملها مع أزمة اللاجئين، ومحاولة بناء أسوار عالية للحيلولة من دون دخول اللاجئين إلى أراضيها. انتقد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه تسهيل الهجرة واللجوء، ودعا زعماء دول الاتحاد، بالوقوف صفاً واحداً لمواجهة «جحافل المهاجرين» التي تحدت قرارات مفوضية الاتحاد، ودكت قلاع أوروبا المحصنة ضد الهجرة، رغم موافقته مؤخراً على استقبال قرابة 20 ألف لاجئ سوري، تحت وطأة الضغوط الشعبية والدولية، بعد فاجعة الطفل السوري إيلان الكردي، الذي قضى نحبه غريقاً على الشواطئ التركية، وهزّت صورته ضمير العالم برمّته. في الوقت نفسه، الذي حذر فيه رئيس وزراء هنغاريا (المجر) فيكتور أوربان، التي تشهد بلاده رقماً قياسياً هائلاً من إعداد اللاجئين الزاحفين إلى غرب القارة الأوروبية، من أن «يصبح الأوروبيون أقلية في قارتهم» نتيجة استمرار تدفق موجات المهاجرين واللاجئين، وإعلانه عن بداية عهد مختلف منذ يوم 15 سبتمبر/ أيلول 2015 مع سياسات الماضي «المتسامح» بشأن الهجرة، وإغلاق الحدود الجنوبية للبلاد مع صربيا، ومعاقبة كل من يدخل الأراضي الهنغارية بطريقة غير شرعية بالسجن لمدة ثلاث سنوات، ومن جانبه أكد وزير الخارجية النمسوية سبستيان كورتس، أن الإجراءات التي تتخذها كل دولة على انفراد لا تساعد على حل أزمة اللاجئين، وطالب الوزير النمسوي بتوزيع عادل للاجئين في أوروبا، وحتى نائب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، سيغمار غابرييل، قال إنه «لا يمكن أن تكون ألمانيا والنمسا والسويد الدول الوحيدة التي تستقيل موجات اللاجئين، وأشار إلى أن هناك قلقاً ومخاوف عميقة لدى المواطنين الألمان حول إذا ما كان ممكناً التعامل مع هذا التحدي أم لا… وتوقع بأن تكون هناك نزاعات داخل المجتمع الألماني في المستقبل حول تلك الأزمة الشديدة.
من ناحية أخرى متعلقة بتداعيات أزمة اللاجئين، انتقدت الأمم المتحدة الإجراءات الأوروبية المشددة وفشل المجتمع الدولي في حماية أوضاع اللاجئين السوريين، التي تجاوزت حدود المعقول، وحث رئيس لجنة التحقيق في مفوضية الأمم المتحدة سيرجيو بينييرو، المجتمع الدولي على التصرف «بإنسانية وتعاطف» مع محنة اللاجئين، من خلال إيجاد سبل قانونية لحرية انتقال الناس في كل مكان في العالم.
فطالما أن السحر بدأ ينقلب على الساحر رأساً على عقب ـ بحسب ـ أحد المراقبين، فإنه لا مناص من أن تغير أوروبا وجه طابع المثل والقيم المحافظة العتيدة، التي ظلت تتمسك بها عبر عدة عقود مضت، من أجل دوافع التعاطف الإنساني، وتوزيع المنافع الاقتصادية على الآخرين، حتى ولو كان الهدف منها تلميع صورة الغرب أمام المجتمع الدولي برمته في مجالات حقوق الإنسان، والمساهمات السخية في مكافحة قضايا التشدد والإرهاب والاتجار بالبشر، إذا ما أرادت إنقاد نفسها، من كل أزمات ومشاكل الهجرة المزمنة، التي أصبحت تعاني منها اليوم بشكل لم يعرف له مثيل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في وقت يتوجب فيه التوجه بالفعل نحو معالجة المشاكل الداخلية الصعبة والمعقدة، وتداعيات الأزمة الاقتصادية الخطيرة، التي أرهقت كاهل المجتمعات الأوروبية، وأضعفت كل مؤثراتها السلبية، وقدرة القوة الإنتاجية والصناعية الوطنية في غالبية دول الاتحاد الأوروبي.