هنغاريا… بين سياجَين «وما أشبه اليوم بالبارحة»
في العام 1989، عندما اشتعلت شرارة الثورات المخملية في جمهوريات المعسكر الاشتراكي السابق، مطالبة بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتحطيم «عبادة الأصنام الحاكمة» وإزالة الأسوار الحديد العالية، التي ظلت تفصل كل هذه الجمهوريات، عن مشاهد التطورات والتغيرات والتحولات الجديدة، داخل العالم الحر، على امتداد عدة عقود من الزمن.
وعندما كانت حكومة جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة، تتصدى بقوة لجماهير الحركة المطلبية الشعبية، التي خرجت إلى الشارع، مطالبة بإعادة هيكلة النظام الشيوعي الشمولي بشكل سلمي وديمقراطي، من خلال تحقيق الكثير من الإصلاحات وإطلاق حرية الصحافة والرأي وحرية التجمهر، وسط مواجهة حامية من قبل الأجهزة الأمنية الرسمية، التي أمعنت في ردع التظاهرات المنتشرة في العاصمة برلين ومختلف المدن والمناطق الألمانية الشرقية، وتقطع عليهم سبل الخروج إلى الغرب، خالفت هنغاريا الاتفاقيات والإجراءات المعقودة بينها وبين جمهورية ألمانيا الديمقراطية بشأن حرية السفر والتنقل، تحت ضغط التظاهرات الكبيرة، التي شهدتها بودابست، من قبل المواطنين الألمان الشرقيين، الراغبين بعبور الحدود إلى الغرب، حيث أمرت الحكومة الهنغارية في ذلك الوقت، حراس حدودها بفتح جميع المعابر والنقاط الحدودية مع النمسا، وتمكن بعد هذا الإجراء أكثر من 600 مواطن ألماني شرقي من الهروب إلى النمسا، وكانت تحدوهم آمال الوصول إلى الشطر الغربي من ألمانيا، ثم أعقبت ذلك موجة نزوح ألمانية شرقية نحو بودابست وفيينا، قبل موعد الهجرة الجماعية الكبرى، التي تحققت لمواطني البلاد، بعد استقالة الأمين العام لحزب العمال الألماني الموحد «الشيوعي» الحاكم، إريش هونيكر في (18 أكتوبر/ تشرين الاول 1989) ومن بعده تحطيم جدار برلين الحصين والمرهب، الذي كان يفصل بين شرق ألمانيا وغربها.
وبعد أكثر من عقدين من الزمن، واجهت هنغاريا، نفس محنة المهاجرين واللاجئين، الفارين من حكومات الأنظمة السياسية الاستبدادية والقمعية والحروب والنزاعات المسلحة والكوارث البيئية، من مختلف أنحاء العالم وبخاصة سورية والعراق وأفغانستان والشرق الأوسط وشمال افريقيا، ولكن هذه المرة بوضع مختلف وصورة مأساوية أكثر حدة وجسامة. وبدلاً من أن تقوم الحكومة الهنغارية الحالية، بإزالة الأسلاك الشائكة أمام اللاجئين المضطهدين، العابرين إلى دول غرب القارة الأوروبية، كما فعلت في وقت سابق الحكومة الهنغارية الإصلاحية الجديدة، التي جاءت على أنقاض الحزب الشيوعي الهنغاري في ذلك الوقت، بزعامة رئيس الوزراء، ميكلوس نيميث، مع المواطنين الألمان الشرقيين، والذي تحدث في مقابلة صحافية مع مجلة «درشبيغل» الالمانية الغربية، في مطلع شهر سبتمبر/أيلول 1989 أن بلاده فتحت حدودها أمام الألوف من اللاجئين والنازحين من ألمانيا الشرقية، الراغبين في اللجوء إلى ألمانيا الغربية، إنطلاقا من «الدواعي الإنسانية البحتة» وأن الدافع الإنساني، هو الذي جعل هنغاريا تقوم بتلك الخطوة الحتمية، التي ليس بامكان أحد الوقوف في وجهها، أعلنت هنغاريا في (15 سبتمبر/ أيلول 2015) بناء سياج مزدوج على طول حدودها مع صربيا، بهدف التصدي بقوة إلى تدافع سيل «الأمواج الهائجة» من المهاجرين واللاجئين عبر الأراضي اليونانية والمقدونية والصربية، وأطلق رئيس الوزراء الهنغاري، فيكتور أوربان، جرس إنذار العقوبات الصارمة ضد الأشخاص الذين يعبرون الحدود الهنغارية من صربيا أو غيرها بصورة غير شرعية، وتوعد في تصريح صحافي في (11 سبتمبر 2015) بأن السلطات الهنغارية ستقوم باعتقال «أي شخص يخالف ذلك القرار على الفور» وشدد على أن هنغاريا «لن ترافق المهاجرين بأدب كما ظلت تفعل في أوقات سابقة».
كل هذه التصريحات المتسرعة والمتشددة، من جانب رئيس الحكومة الهنغارية، فيكتور أوربان، تجاه أزمة اللاجئين والمهاجرين، أيقظت مشاعر المنتقدين والمعارضين كافة للسياسات المتشددة والمتطرفة ضد المهاجرين واللاجئين، وحركت بواقع الحال عواطف المستشار النمساوي فيرنر فايمان «الإنسانية والأخلاقية»تجاه من ضاقت بهم سبل العيش في أوطانهم الأصلية، حيث وصف أوربان، بأنه «رجل السياسة المتطرف» الذي يمارس بكل وعي وإدراك «سياسة ردع اللاجئين» المضطهدين والمنكوبين، ويتبع «سياسة عنصرية» مشابهة لتلك السياسة العنصرية والاقصائية، التي سادت طوال حقبة النظام النازي في ألمانيا، تحت قيادة الدكتاتور أدولف هتلر، الموغلة في ممارسة التعصب القومي الأعمى، والشوفينية والعنصرية الشديدة.
ومنذ تصديها لموجات الهجرة الجماعية الكبرى، التي شهدتها البلاد خلال الفترة الأخيرة، تتصدر الحكومة الهنغارية اليمينية، بزعامة فيكتور أوربان، حكومات الدول الأوروبية الشرقية المعارضة لمواقف وتطلعات حكومات الغرب، المرحبة باللاجئين والمهاجرين، القادمين من جحيم الحروب والنزاعات المسلحة والاضطهاد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في مختلف أنحاء العالم، وتضع أمامهم جميع العقبات والعراقيل والأسوار المحصنة، التي قد تعسر عليهم بلوغ كامل أهدافهم وأحلامهم وتطلعاتهم المنشودة، نحو الوصول إلى ملاذات آمنة ومستقرة وحرة وكريمة في أوروبا المتقدمة والمزدهرة والسخية.
وفي هذا الجانب، مازالت تراود أفكار، المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل، بعض الشكوك، في أن تحقق الدعوات والمناشدات الحميدة كافة، التي وجهت إلى رؤساء حكومات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، لتحمل مسئولياتهم الوطنية والأوروبية، تجاه معالجة أسباب الصعود الكبير للهجرة السرية وغير الشرعية، وسبل حماية الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، وتقاسم حصص اللاجئين، أية نتائج مثمرة وسريعة، حيث لايزال هناك من يصر على ممارسة «سياسات الأمر الواقع» على اللاجئين والمهاجرين، تحت ذرائع ومبررات عديدة، من دون لفت نظرة الاهتمام إلى أية «رعاية إنسانية» جادة ومخلصة، تحاول أن تنقذ أوضاعهم وآلامهم وظروفهم الحياتية الصعبة والمعقدة.