لا شيء يستحيل في علاج ضحايا التعذيب
على امتداد عقود عدة من الزمن، أصر الأطباء النفسانيون والمتخصصون في العلاج الطبيعي، على أنه بعد مرور مراحل طويلة من الزمن، لم يكن بإمكان ضحايا التعذيب، أن تتحسن أوضاعهم الحياتية العامة تحسناً إيجابياً، لأن الآثار النفسية والجسدية المدمرة تظل ملتصقة بشكل واضح في جوف مخيلاتهم حول ذكريات المشاهد المهولة، التي عايشوا كل لحظاتها المأساوية في غياهب السجون والمعتقلات الرهيبة. حيث إن عمليات إعادة التأهيل التقليدية، لم يكن بمقدورها إسعاف المصابين بالصدمات النفسية العالية وآثار التعذيب الوحشي، فقط بنسبة ضئيلة، تكاد أن لا تتعدى كونها مجرد جرعة دواء مهدئة، نحو الجوانب المتأثرة في أوصال المريض النفسية أو الجسدية. وما من أحد يتوقع أن يشفى المصاب بحالات التعذيب وبخاصة بعد مضي سنوات عديدة، على تراكمات تلك الحالة الصحية.
لكن التطورات العلمية الهائلة والأساليب العلاجية الحديثة، التي بدأت تستخدمها مراكز تأهيل ضحايا التعذيب في الوقت الراهن، في البلدان المتطورة والمتقدمة كالدنمارك والسويد وألمانيا، المبنية على أفكار وعلوم فسيولوجية وبيولوجية متعددة، حول كيفية التعامل مع الأشخاص المصابين بالصدمات النفسية والتشوهات والإعاقات الجسدية وأمراض الانفصام الشخصي والاكتئاب والوسواس والتوحد والانعزال، أظهرت عدم استحالة الشفاء الكلي أو الجزئي الشديد من تلك الأمراض، وبخاصة من جانب الحالة النفسية الصعبة والمعقدة، حيث يبذل الأطباء النفسانيون والمتخصصون في العلاج الطبيعي، جهوداً جبارة من أجل إعادة تأهيل هؤلاء المرضى وتوجيههم نحو تأدية مهمات الحياة الأكثر أساسية، والتي يمكن لها أن تساعدهم بأشكال ووسائل تقنية عديدة، على استعادة الاجزاء المهمة المتضررة من حياتهم تدريجيا. ولكن كل ذلك ـ بحسب الأطباء – يتوقف على ما إذا كان المريض راغباً في التجاوب مع الصعوبات الخاصة، التي قد تواجه طريق بناء حياته من جديد.
ويعتبر مركز إعادة تأهيل ضحايا التعذيب في الدنمارك (آر. سي. تي) واحداً من أهم وأكبر المراكز المتخصصة في إعادة التأهيل في أوروبا وربما أيضاً في العالم برمته، حيث تستخدم في هذا المركز أحدث أدوات العلاج النفسي والجسدي، التي باستطاعتها أن تمهد الخطوات العلاجية الأولية لضحايا التعذيب، حتى بلوغ مستوى التعافي السليم من الصدمات النفسية الأكثر صعوبة، والآثار المدمرة من حالات التعذيب الوحشي، وبصورة تبدو وكأنها «حالة إعجازية» حيث يرى فيها العديد من المرضى النفسيين، أنفسهم يخرجون بصورة تلقائية من دوامة الكوابيس والأحلام المزعجة المفرطة، التي ظلت تلاحق أفكارهم ومشاعرهم، ساعة تلو الأخرى، بعد أن تحرروا من قيود السجون والجلادين.
ويوفر المركز الدنماركي، لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب، الذي تم تأسيسه في مطلع سنوات الثمانينات من القرن الماضي، في نفس الفترة التي شرعت فيها الدنمارك أبوابها على مصراعيها لاستقبال المهاجرين واللاجئين الوافدين من مختلف مناطق التوتر في العالم، بهدف مساعدة الأشخاص الذين يعانون من أمراض نفسية وجسدية بسبب التعذيب، فرص العلاج الضروري المجاني في الداخل والخارج معاً، على أيادي أطباء نفسيين وأخصائيين مهرة في العلاج الطبيعي، ومعدات تقنية متطورة ومتقدمة، وتدريبات بدنية مكثفة ومعتمدة على طاقة التحمل، ودروس وتوجيهات إرشادية ناجعة تقدم الأمل لضحايا التعذيب في تغيير أوضاع حياتهم القاسية والقلقة، نحو الأحسن والأفضل. ولذلك فإن دورات العلاج المتطورة والحديثة، التي تستغرق مدة ما بين أربعة، وسبعة شهور، في رحاب هذا المركز، قد حققت الكثير من العمليات التأهيلية الناجحة، واستطاعت أن تغير بأشكال جزئية أو كلية من حياة العديد من الاشخاص، الذين كانوا يعانون من أمراض نفسية وجسدية مزمنة، بعد أن ظلت تحثهم باستمرار، على طريق تجاوز أزماتهم النفسية القاسية، ومعاناتهم الجسدية الصعبة، والاندماج المباشر في المجتمع، والسعي لتعلم مهارات جديدة ومفيدة، تفتح لهم آفاق النشاط والعمل للمستقبل، وتحاول أن تدفع بهم لتعويض كل ما فاتهم من ملذات الحياة الدنيا، في سنوات الجمر والعذاب.