الجماعات الإسلامية في أوروبا… تغيير الصورة

قضايا المسلمين في أوروبا، هي إحدى القضايا المهمة، التي شغلت اهتمام الباحثين والأكاديميين والسياسيين الأوروبيين، على امتداد السنوات الأخيرة من القرن العشرين، بعدما تصاعدت موجات الهجرة إلى مناطق شرق وغرب القارة الأوروبية بشكل واسع النطاق في منتصف القرن العشرين، وتضاعف ذلك الاهتمام بصورة دراماتيكية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وجميع دول المعسكر الاشتراكي السابق، التي ظلت تدور على مدى عقود عدة من الزمن، في فلك النظام الشيوعي الشمولي.

في أوروبا الغربية بقي الإسلام والمسلمون شيئاً غريباً على مجتمعاتها حتى سنوات حقبة الخمسينات من القرن الماضي ـ بحسب ما ورد في كتاب (المسلمون في أوروبا قديمون في شرقها وحديثون في غربها ـ للمؤلفين جيرد ننمان، وتيم نيبلوك، وبوغدان زاكوسكي) إذ إن وجودهم لم يكن ملموساً قبل ذلك الوقت، ولكن هذا الحال بدأ يتغير تدريجياً عندما تزايدت أعداد العمال المهاجرين إلى مختلف البلدان الأوروبية الغربية في سنوات السبعينات، حدث هذا في الوقت الذي وضعت فيه حكومات هذه الدول قيوداً مشددة على هجرة هذه العمالة، وكان من شأن قدوم أعداد هائلة من العمالة الرخيصة وزيادة معدلات الإنجاب بين المسلمين مقارنة بالمواطنين الغربيين، أن حدثت تغييرات واضحة كان لها انعكاساتها الاجتماعية، التي اتضحت مؤثراتها في مجالات أكثر من غيرها مثل التعليم، وإذا كان الهدف الأول من هجرة المسلمين هو تأمين العيش الكريم بسبب الفارق الكبير في مستويات المعيشة بين البلد الأم وبلدان المهجر، فإن الأجيال اللاحقة من المسلمين الذين ولدوا وترعرعوا في الغرب، كانت أمانيهم وتطلعاتهم لا تقف عند الأحوال المعيشية اليومية وحدها فقط، بل أخذت تتجاوزها لتشمل مختلف الحقوق العامة، التي تضمنها حق المواطنة الغربية، لذا فقد شعرت الأجيال الشابة من المسلمين بارتياح شديد من استلهام الثقافة المتنورة الغربية، وتتزايد تطلعاتهم للمستقبل في ضوء الصعود الأوروبي.

ومن الطبيعي في هذا الوضع، أن يحدث نوع من أنواع الصدام بين الإسلام وحضارته والغرب ومدنيته، بسبب توجهات الطرفين كما حدث في حالات عديدة لعل أبرزها على الإطلاق ما وقع في بريطانيا وفرنسا، منذ حقبة سنوات الثمانينات من القرن الماضي، الأولى بسبب كتاب (الآيات الشيطانية) لسلمان رشدي، والثانية بسبب منع السلطات الفرنسية الفتيات المحجبات من ارتداء الحجاب في المدارس الحكومية الرسمية في عموم فرنسا، وهناك قضايا أخرى عديدة متشابهة حدثت في هذين البلدين بالذات، وكذلك بلدان أوروبية أخرى.

وإذا كان التواجد الإسلامي الملموس في أوروبا الغربية، يعود إلى أوائل النصف الثاني من القرن الماضي، فإن عهد أوروبا الشرقية بالمسلمين يعود إلى قرون عديدة من الزمن سبقت هذا التاريخ، فالوجود العثماني في البلقان يعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي، وذلك عندما نجح العثمانيون في صراعهم مع الأوروبيين في حروب ومعارك عديدة من أهمها على الإطلاق «معركة كوسوفو» في العام 1389 وقد تحول الوجود الإسلامي من وجود استيطاني في بداية الأمر، إلى تقبل الأهالي لهذا الدين وتحولهم إليه. وتعد ألبانيا والبوسنة والهرسك، من أهم المناطق، التي قبلت الإسلام وأصبح المسلمون يمثلون فيها نسبة كبيرة من المواطنين.

دول أوروبا الشرقية بشكل عام، استطاعت طمس المشاعر الدينية، ومنها بشكل واضح تلك التقاليد، التي تتعلق بالمسلمين، غير أن سقوط الشيوعية التقليدية، وتفكك المعسكر الاشتراكي برمته، وظهور حالة من الفوضى السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلدان، التي خرجت من عباءة النظام الشيوعي، خلق واقعاً جديداً مهد الطريق أمام الانتماءات الاثنية والدينية. وهكذا احتمى كثيرون بالمعتقدات والديانات، التي ينتمون إليها، ولو بالاسم بعد سنوات طويلة جداً من هجرتها القسرية. واستطاعت الكنيستان الاروذكسية والكاثوليكية، الاستفادة من هذا الواقع الجديد ذاته، وأنهم تمكنوا من اللجوء إلى الإسلام وما يملك من مؤسسات بسيطة كالمساجد ومراكز ومدارس التعليم والتربية الإسلامية.

لذا فقد وضع المسلمون بصمات واضحة في أوروبا، من خلال روابط الثقافة والفكر، وتراث المبدعين والفلاسفة الإسلاميين، كما تحدث عنها كتاب «المسلمون في أوروبا قديمون في شرقها وحديثون في غربها» وقد ساعد «تسامح وتعاطف» الغرب، مع قضايا المسلمين المتواجدين في رحاب القارة الأوروبية، على بناء جسور التآلف والانسجام والتعايش المباشر الاجتماعي والاقتصادي، تحت مظلة قوانين الحقوق والواجبات المشتركة لكل فئات وطبقات وشرائح المجتمع، وتطلب الأمر مرور عقود عدة من الزمن، قبل أن تنشر الجماعات الإسلامية المتشددة والمتطرفة مظاهر الخوف والقلق في نفوس المواطنيين الغربيين، من خلال سعيها لرفع شعارات التكفير وتسفيه الآخر، ومحاولات التوسع الإسلامي في عموم أوروبا، وتعرض العديد من العواصم الأوروبية الغربية، إلى هجمات وتفجيرات إرهابية، راح ضحيتها عشرات بل مئات المواطنين الأبرياء بين قتيل ومصاب ومفقود، ما تسبب ذلك في صدمة الغرب وإضعاف ثقته بغالبية المسلمين في مختلف بقاع العالم. وعلى رغم ذلك، لم تتعامل حكومات الغرب مع جميع المسلمين، بوصفهم مجرد متطرفين وقتلة ومجرمين وإرهابيين، وكان لابد لشعوب أوروبا، أن تتعايش بصدق مع حقيقة أن المسلمين الحقيقيين والمبدئيين والمسالمين، هم أصحاب رسالة سلام وتسامح وتصالح وتعايش حقيقي، مع أصحاب المعتقدات والديانات السماوية الأخرى، وليس العكس، ولذا كان من الطبيعي أن يعتنق بعض المواطنين الأوروبيين الإسلام، ويمارسون الكثير من العادات والتقاليد الإسلامية، ويشاركون الجاليات الإسلامية في مختلف مناسباتها الدينية، وفي أعمال الخير، وبهذا كانوا يسعون إلى تكريس مفاهيم السلام والوئام والانسجام والتعاطف ولقاء الحضارات، وليس صورة الصدام والتنافر والكراهية مع المسلمين. ولكن البعض الآخر أظهر خوفه على أمنه من المسلمين إلى حد الكراهية، أمام الممارسات المتشددة والمتطرفة والإرهابية، التي تمارسها في وضح النهار الجماعات التكفيرية كافة، في أوروبا وفي كل مكان في العالم، وهو ما يقلق المجتمع الدولي حتى اللحظة.

هذه الأفكار والثقافات الظلامية والحاقدة، التي يتغنى بها التكفيريون، قد تكون صدى مبرراً للقوى المتطرفة والعنصرية والنازية الجديدة في أوروبا، حول توسيع مظاهر تعصبها وحقدها ومعاداتها للإسلام والإسلاميين، ليس فقط على نطاق القارة الأوروبية، بل أيضاً على مستوى العالم برمته.

 إقرأ أيضا لـ “هاني الريس”

Loading