أوروبا تعيد أسطورة الستار الحديدي هاني الريس
بعد أن تحطمت أسطورة «الستار الحديدي» الذي شيدته دول أوروبا الشرقية خلال حقبة الشيوعية البائدة، والتي دأبت ولأعوام طويلة وخاصة في ظروف الحرب الباردة بين (المعسكرين الاشتراكي والامبريالي) والمواجهة الدولية، على أنها وحدها فقط محور الكون، ومصورة نفسها بأنها حصن «العالم الحر» في الصراع ضد خطر «الإمبريالية والرجعية» في أنحاء العالم برمته، بحدوث ما سمي بـ «ووترغيت» المعسكر الاشتراكي، الذي شهد تساقط أنظمته السياسية الواحد تلو الآخر، بفعل ثورات شعوبه المطالبة بالديمقراطية والحريات المدنية وحقوق الانسان، توقعت حكومات الغرب، أن ملايين الاوروبيين الشرقيين على استعداد لمغادرة بلدانهم لو أن الغرب فتح لهم الأبواب على مصاريعها من دون أدنى منغصات معنوية أو عراقيل. ولهذا السبب عمد الغرب الذي حاول طوال سنوات حقبة الحرب الباردة، أن يوجه الرسائل الانسانية والاخلاقية إلى المواطنين الاوروبيين الشرقيين وعبر «الستار الحديدي الشاهق» بذريعة «الديمقراطية الواقعية» و«حقوق الانسان» و«حرية السفر والتنقل» إلى تشييد «أستار حديدية عديدة» في وجه جموع النازحين والمهاجرين إليه من شرق القارة الاوروبية، تحت مبررات خشيته من أن تؤدي موجات الهجرة الجماعية من «الشرق البائس» إلى خطر محتمل لاستقرار الغرب وتقويض اقتصاده القوي والمزدهر.
ومن بين أبرز الاجراءات الغربية المجحفة والقاسية، التي تصدت لموجات المهاجرين والنازجين من دول اوروبا الشرقية في ذلك الوقت «نظام التأشيرات، وتصريف العملات الصعبة، وصعوبة توفير الأعمال وأجور السكن» وغيرها من الشروط والظروف المعقدة، التي حاولت أن تبدد أحلام المهاجرين الشرقيين، إلى «جنة الغرب» الذين كانوا يأملون أن يحققوا في رحابها، كل أسباب الأمن والاستقرار والرخاء الاقتصادي وتوفير الفرص الاجتماعية والعمل.
واليوم، وفي ظل تنامي موجات الهجرة واللجوء السياسي والإنساني، الزاحفة من خارج حدود أوروبا، والتي أخذت خلال الفترة الاخيرة، تغزو الكثير من العواصم الغربية والشرقية على حد سواء، في دورة خاطفة وسريعة، تبدو وكأن «التاريخ قد أعاد نفسه» مرة ثانية، بالقدر الشاق نفسه الذي وجدت فيه شعوب أوروبا الشرقية نفسها تعاني من مرارة الاجراءات المذلة والقاسية، التي فرضتها سياسات الغرب بشأن الهجرة. لكنه للأسف الشديد بدلا من أن تستوعب دول أوروبا الشرقية، التي كانت حتى وقت قريب محط انتقادات الغرب، بسبب انتهاكات حقوق الانسان. دروس الماضي المذل والتعسفي، والاستفادة منها بشكل صحيح في هذا الوقت، ظلت تناطح الجدار، وتتزعم عصراً جديداً من المراقبة الأمنية المتشددة، وتضع العقبات والعراقيل في وجه المهاجرين واللاجئين الباحثين عن الأمن والاستقرار والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الميسورة، وبذلت جهدها من أجل بناء «أستار حديدية صلبة» تحت ذريعة «حماية الغرب المسيحي» من طوفان هجرة المسلمين الشرقيين بشكل جماعي، إلى قلب القارة الاوروبية ـ بحسب ـ ما جاء في تصريح رئيس الوزراء الهنغاري، فيكتور أوربان، لصحيفة « دي فيلت» الألمانية، خلال الحديث عن أزمة اللاجئين في أوروبا، والتي كانت حكومته قد وضعت عدة مقترحات جديدة، من أجل حماية حدود الاتحاد الأوروبي من المهاجرين غير الشرعيين وعمليات الاتجار بالبشر، والتي تضمن بعضها رفض نظام الحصص المقترح من قبل المفوضية الاوروبية لتوزيع اللاجئين بين الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي، وكذلك التصريحات والمواقف المماثلة، التي أطلق عنانها من القمقم، رئيس حكومة سلوفاكيا، روبرت فيكون، قبيل انعقاد القمة الطارئة المرتقبة، لزعماء دول الاتحاد الاوروبي، بشأن مناقشة أزمة المهاجرين واللاجئين في أوروبا، حيث قال «أن لا أحد يستطيع أن يملي على سلوفاكيا ما ستقوم به» من إجراءات متعلقة بقضايا الهجرة، في رسالة تبدو واضحة وصريحة لقادة الدول الغربية، حول اصرار بلاده على التمسك الشديد برفض مشروع المفوضية الاوروبية، بشأن مقترحات تقاسم حصص المهاجرين واللاجئين، في وقت تحاول فيه دول الغرب الذي بدأ بعضها يتجه نحو إغلاق نقاط الحدود مع الشرق ولو بشكل مؤقت، تحسبًا لقدوم موجات أخرى جديدة من المهاجرين واللاجئين، وإيجاد بعض الحلول الكفيلة معالجة الجوانب الأكثر حساسية من أزمة الهجرة في أوروبا.
وفي نظرة واقعية لصعوبات معالجة أسباب تلك الأزمة، ليس المرء بحاجة إلى النظر، أبعد مما صرحت به جودي ديمبس، الباحثة في معهد «كارنيجي يوروب» للعلوم السياسية، من أن «الجدران العازلة» باتت بالفعل تبنى حول حدود الاتحاد الاوروبي» ويجب على الدول الاوروبية، التي مازالت تصر على رفض مقترحات المفوضية الاوروبية بشأن تقاسم حصص المهاجرين واللاجئين، أن تعيد النظر في توجهاتها المبدئية الراهنة، لتدارك خطورة أزمة اللاجئين المعقدة في أوروبا.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم في ظل احتدام الجدل حول أزمة اللاجئين هو: ما الاختلاف الجوهري بين اوروبا بالأمس في زمن الحرب الباردة، التي تسببت بمآسي الشعوب المسحوقة، وأوربا اليوم التي أفرطت بطرح شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، وكسر الجدران الشاهقة، والحدود التي تفصل بين مختلف شعوب العالم؟.
والاجابة عن هذا السؤال تتلخص في بضع كلمات موجزة: الروح القومية المتشددة والمتعصبة، والدفاع عن المصالح الاقتصادية الصرفة، واحتكار السيادة الوطنية، وليس الدفاع عن قضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، وتحطيم الأسوار العالية الفاصلة بين الدول والشعوب، وإزالة كل كياناتها إلى الأبد.