«البحث عن الوحدة الوطنية الضائعة»
قبل أسبوعين فقط من مغادرته منفاه في دمشق متوجّها إلى البحرين، بعد إقرار العفو العام وإلغاء قانون ومحكمة أمن الدولة، هاتفني عبدالرحمن محمّد النعيمي – شافاه الله وعافاه – يودّعني ويتمنّى لي العودة مع العائدينَ إلى البحرين؛ لمواصلة مسيرة النضال في الداخل. فقال من ضمن ما حدّثني به عن ترتيبات أمور العودة: «إنّ أهم ما يشغل تفكيري وأنوي القيام به في البحرين عند لحظة وصولي إليها، هو العمل الجاد، من أجل تأسيس تقاليد جديدة للعمل الديمقراطي يكون منظما ومستقلا عن السلطة السياسية، والنضال من أجل قيام وحدة وطنية تكون حركة شعبية ديمقراطية، تقود مسيرة النضال الوطني لإحداث التغيير الحقيقي والجوهري في البلاد، وتحقيق الحلم الديمقراطي والحكم الدستوري الذي ناضلتْ واستشهدتْ من أجله أجيال من شعب البحرين، على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الزمن». وكان في تلك اللحظة شديد التفاؤل وشديد الحماس، تجاه تلك المهمّة الوطنية الكبيرة؛ لأنّه كان يؤمن على رغم كلّ شيء، بأنّ بقاء الوطن وأمنه واستقراره وتعايشه لا يمكن له أنْ يكون بغير قوّة وحدته الوطنية، وشعرتُ حينها أنه كان صادقا ومخلِصا في تأكيد توقه إلى الوحدة الوطنية المرتكزة على الثوابت الوطنية الأصيلة وعلى أساس التوافق الوطني؛ لأنّه كان في المنافي البعيدة، يبدلُ الجهد والعمل والنضال من أجل توحيد قوى المعارضة اليسارية والقومية والإسلامية في الخارج، وفعلا فقد كان الرجلُ عند وعده، وصار يبدل أقصى ما لديه من جهد ومن طاقة العمل؛ لكي يبدأ خطوة الألف ميل تجاه تأسيس الكيان السياسي الذي يفترض أنْ يجمع حوله الرموز والقيادات السياسية ومختلف قوى التغيير في البلاد، وعندما تكاتفت الجهود حول قيام تجمّع وطني ديمقراطي يتسع للجميع، وإعادة بناء معارضة قوية وقادرة على العمل والصمود وإبقاء الصراع السلمي قائما مع السلطة حتى تحقيق جميع المطالب الشعبية، وجّهت الدعوة إلى قرابة 40 شخصية وطنية، سياسية واجتماعية واقتصادية وحقوقية، لحضور جلسات الحوار والمشاركة في إعداد برنامج عمل وطني مشترك ويكون منسجما مع ظروف وأوضاع المرحلة الإصلاحية الجديدة، التقت جميعا في ضيافة النعيمي، بمنزله في عراد، وتحاورتْ وتناقشتْ ووضعتْ تصوّراتها وأهدافها وطموحاتها وأمانيها للمستقبل، في أجواء المكاشفة والمصارحة والاستعداد للعمل، ولكن -وللأسف الشديد- ما لبثت الأمور أنْ تغيّرت، وبسرعة مذهلة خرجتْ من القِمم خلافاتٌ واختلافاتٌ فكرية وعقائدية بين أقوى تيارين في المبادرة (الجبهة الشعبية وجبهة التحرير الوطني) كان البعضُ يعتقد أنه قد عفا عليها الزمن، بعد التحوّلات الديمقراطية الجديدة، التي غيّرت العالم برمّته، وكانت تغريها غرائز انتهازية لدى بعض، وثقافة إقصاء وتهميش واستبداد في الرأي وأنانية في الذات وتصفية الحسابات والحسابات المضادة والخوف من بروز الآخر واحتمال منافسته وتصدّره واجهة النضال الشعبي، وعندما اشتدّتْ وطأة الخلاف والاختلاف على حصد الامتيازات والمكاسب الذاتية، تلاشتْ أفكارُ التوحّد والوحدة، وذهبتْ في مهب الرياح أحلام وتمنيّات كانت أقرب إلى الحقيقة من الواقع، وخصوصا أنّ المجتمع البحريني في ذلك الوقت بالذات كان في أمسّ الحاجة إلى مثل هذا النموذج الوحدوي، وإلى ظهور قيادة وطنية جديدة وموحّدة، أو شخصية قيادية كارزمية يسترشد بتوجيهاتها وخبرتها وقوة أفكارها الجميع، وذلك بعد انهيار لجنة العريضة الشعبية التي تزعّمتْ قيادة النضال الوطني في تسعينيات القرن الماضي، وغياب القائد الكارزمي، وحل جميع فصائل العمل الوطني التحررية التي كانت تعمل وتناضل من تحت الأرض قبيل تحويل دولة المراقبة الأمنية إلى مملكة دستورية، وكانَ هذا الذي حدث بالضبط للمبادرة التوحيدية أو الوحدوية، التي أطلق عنانها المناضل النعيمي.
وقال كثيرون ممن شهدوا انهيار هذه المبادرة، إنّ أية مبادرات أخرى قادمة من هذا النوع، ستكون بالتأكيد صعبة وشاقة، وستكلّف أصحابها المزيد من الوقت والجهد والعمل، من أجل الوصول إلى هدف الوحدة الوطنية، أو على الأقل إلى صيغة توافقية تكون مقبولة، لدى هذا الجمع الهائل من الجمعيات السياسية والتجمعات الأهلية والاجتماعية والحقوقية، المرخصة وغير المرخصة، والتي فتحتْ لها السلطات الأبواب مشرَعة، ولأهداف سياسية صرفة، كان مخططا لها بذكاء وبدقة متناهية لا تقبل التأويلات، كان من أبرزها على الإطلاق، تفتيت وحدة قوى المجتمع ، وقد حصل ذلك بالضبط، عندما تمكّنت الصراعات والغرائز الانتهازية، بالإضافة إلى الإجراءات والقيود الدستورية الجديدة، والحدود المفروضة على حريات الرأي والتعبير والمساءلة والمكاشفة والمحاسبة، والمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة، من تفكيك وتمزيق ثلاثة تحالفات رئيسية للمعارضة الوطنية هي: التحالف السداسي والتحالف الرباعي الذي قاطع انتخابات العام 2001، والمؤتمر الدستوري الذي يفترض أنه كان صمام الأمان للتصدّي للخروقات الدستورية والإجراءات الخاطئة في سياسات السلطة.
هذا بالإضافة إلى ميثاق الشرف، الذي وقعت عليه عدّة جمعيات سياسية معارضة، وكان الهدف منه تركيز الأضواء على الأنشطة السياسية والإعلامية لتلك الجمعيات، ووقف أية إشاعات أو اتهامات بينها، كلّها تبخرت وذهبتْ في مهب الرياح.
واليوم، وبعد مضي ست سنوات على المبادرة التوحيدية، الذي أطلق عنانها النعيمي، بعد عودته من المنفى، ومرّت بمخاضات صعبة قبل انهيارها، يعلن الناشط السياسي عبدالوهاب حسين، وهو المناضل الصلب الذي لا يستطيع أحدٌ التشكيكَ في استقامته وقدرته على إدارة أيّ حوار سياسي من أجل المصالحة الوطنية، وبالتأكيد فإنّه كان الرجل الشعبي الثاني، بعد المجاهد الكبير المرحوم الشيخ عبدالأمير الجمري، في مسيرة نضال التسعينيات من القرن الماضي، ذلك الشيخ الجليل والرمز الوطني اللامع، الذي استطاع بروحه الوطنية العالية وبعقليته المنفتحة على الحوار والمصالحة والتسامح وقبول المطالبة بالديمقراطية والإصلاحات في البلاد، والذي ظل يعتبر اللاعب الرئيسي في تحريك الأمور في الساحة، حتّى وهو كان قابعا في غياهب السجن، ثم في إقامته الجبرية، قبل أنْ يلقى مصيره المحتوم وينتقل إلى جوار ربه راضيا مرضيا، والذي لم يستطع حتّى الآنَ أيّ من الرموز والقيادات السياسية الوطنية الإسلامية، أنْ يملأ الفراغ الذي خلّفه غيابه في الساحة، يعلن عبدالوهاب حسين، عن عزمه على إطلاق مبادرة سياسية للحوارالوطني ، تهدف إلى ترقيع «الشرخ» الذي خلخل التلاحم الوطني وخصوصا في الفترة الأخيرة، التي تشهد فيها الساحة البحرينية تراشق الاتهامات والاتهامات المضادة بين مختلف التيارات السياسية والاجتماعية والطائفية والمذهبية. ولا شك بأنّ هذا المبادرة، قد تكون فرصة ذهبية لمختلف قوى المعارضة والتغيير في البلاد، لكي تعيد تنظيم نفسها من جديد، بعد أنْ تعرّضت ولفترة طويلة إلى الانقسام والتباعد والتجاذب السلبي وضعف الأداء.
ولا يخفى على المتابع أنّ هذه المبادرة التي تهدف إلى توحيد الصف الوطني، قد استعادت أبرز الخطوط العريضة من مبادرة النعيمي، والمتمثلة بإزالة الحساسيات التي اعترتْ معظم فصائل النضال الوطني في سنوات ما قبل الانفراج السياسي، والتي أخذتْ في التنامي خلال المسيرة الحالية، وخلق سياسة موحّدة للعمل الوطني، وإضفاء جو من الحوار البناء والهادف والصريح بين مختلف الفعاليات السياسية والاجتماعية والحقوقية والدينية؛ لتحريك الأجواء الراكدة على الصعيدين السياسي والاجتماعي، ولكن على الرغم من نظرة التفاؤل التي أظهرتها البيانات التوضيحية الصادرة بعد اللقاءين الأخيرين في المبادرة والتي كانت تقول بوجود أجواء مريحة من التفاهم والتعاون والمكاشفة والمصارحة، قد عززت «الروح المعنوية» للوجوه المشاركة في المبادرة، فإنّ هناك ثمة صعوبات ومعوقات كبيرة، يمكن أنْ تواجه المراحل اللاحقة للحوار الوطني، قد يكون من أبرزها، بقايا الحساسيات التي أعاقتْ بصورة كبيرة مسيرة الحوار والمصالحة الجادة في المبادرات السابقة، والوجوه الجديدة والتيارات التي تسعى المبادرة لضمها في المستقبل، والصراع على امتيازات تصدّر واجهات القيادة، واحتجاج بعض التيارات التي لم توجه لها دعوة المشاركة أو تلك التي لم تشارك بصورة كافية في المبادرة، هذا بالإضافة إلى قوّة استمرارية التخندق السياسي والاجتماعي والطائفي والمذهبي، وإصرار السلطة على البقاء لاعبا وحيدا في الساحة، وتعنت البعض على استبعاد الفكر الآخر والتوجّه الآخرعن لعب الدورالفاعل في الحياة السياسية والاجتماعية وغيرها، وكذلك الوجوه السياسية والاجتماعية والاقتصادية المعروفة التي أسهمت بقوّة في مسيرة النضال الوطني الطويلة الأمد، ولم تدعَ للمشاركة ستظل تراقب الأوضاع وستطالب بحقها في أيّ حوار وطني، يتمّ على أساسه قيام وحدة وطنية في البلاد، وعلى رغم كلّ شيء تبقى الأسئلة المطروحة الآنَ: هل تستطيع هذه المبادرة أنْ تنجز الأمور الكبيرة التي عجزتْ عن إنجازها المبادرات الأربع المنهارة سابقا؟ وإذا ما نجحتْ فعلا، فهل ستكون مؤهلة لقيادية مرحلة جديدة وصعبة في مسيرة النضال الوطني؟ وما هو المستقبل المنظور للساحة السياسية إذا ما قدّر لهذه المبادرة بالفشل؟
كلّ هذه الأسئلة ستبقى في ذاكرة المواطن البحريني حتى تتضح الصورة القادمة لهذه المبادرة التي ستكون خطواتها محسوبة بدقة لدى عموم الناس.