عدم الاعتراف بالآخر (1 من 4)
لماذا فشل مشروع الاتفاق الامني بين لجنة المبادرة الوطنية بقيادة سماحة الشيخ عبدالامير الجمري، ووزارة الداخلية البحرينية في العام 1995 .. وكيف صار يحلم ولي العهد ووزير الدفاع حمد بن عيسى آل خليفة، بأن يصحوا ذات صباح ويجد جميع القرى الشيعية في البحرين غارقة في أعماق البحر ؟
إزدهرت آمال المواطنين البحرينيين وأمانيهم، وإستبشروا بما ورد إلى مسامعهم من أخبار (مفرحة تثلج الصدر) حول مشروع الاتفاق الأمني، الذي توصلت إليه لجنة المبادرة الوطنية، بزعامة الشيخ عبدالامير الجمري، ووزارة الداخلية بقيادة رئيس جهاز المخابرات العميد ايان هندرسون، لتحديد شكل المفاوضات التي كانت تستهدف إنهاء الاضطرابات والعنف والعنف المضاد في البحرين، في فترة اعتصام قادة المبادرة الوطنية واضرابهم عن الطعام في منزل زعيم المعارضة البحرينية سماحة الشيخ عبدالامير الجمري، ونجاح التأييد الوطني والدولي لتلك المبادرة والاعتصام .
وقد كان لقيادة لجنة المبادرة الوطنية، ما يكفي من المبررات للتنبؤ بالتوصل إلى اتفاق واضح بين الطرفين، من خلال التعهدات الكثيرة، التي قطعتها وزارة الداخلية، وكذلك السلطة التنفيذية البحرينية على نفسها، أمام الجميع، بشأن تحقيق جميع المطالب الشعبية وبصورة مرحلية تدريجية، بعد أن يستتب الأمن والاستقرار، وتعود الحياة العامة إلى مجرياتها الطبيعية السابقة، ما قبل الأحداث وتداعياتها المؤلمة، وبالفعل فقد ساد الهدوء المنشود بشكل ملفت في ربوع البلاد، وذلك بعد أن اطلقت السلطات سراح الدفعة الأولى، من قادة المبادرة الوطنية، المعتقلين في معتقلات وسجون البحرين.
وتولدت هناك مشاعر جياشة لدى غالبية المواطنين البحرينيين بالتفاؤل، بوجود إنفراج سياسي شامل بعد الانتهاء من عملية أطلاق سراح ما تبقى من قيادات تلك اللجنة، الذي كان أخرهم سماحة الشيخ المجاهد، عبد الأمير الجمري، حيث خرجت البحرين، عن بكرة أبيها في إستقبال هذا الرمز الكبير والقائد البارز في المعارضة الوطنية والإسلامية، وقد احتاج قادة لجنة المبادرة، إلى أكثر من شهرين للرد على التحدي الذي أعلنه مشروع الاتفاق الامني، بضرورة وضع نهاية حاسمة لاعمال العنف والاضطرابات، وتحقيق كافة المطالب الشعبية، التي وعدت السلطة البحرينية، بتحقيقها باقصى سرعة ممكنة استجابة للضرورات.
ولكن في خلال تلك الفترة، وفي ظل أجواء الهدوء والاستقرار النسبي، ومرحلة الانتظار التي سوف يسفر عنها تعهد السلطة البحرينية، بتحقيق تقدم سريع للمفاوضات وحل الازمة باستخدام كافة الوسائل السلمية، إستمرت قوات الأمن وحجافل المرتزقة الأجانب، بالاعتداء على المواطنين وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات، وفرض حصارات محكمة على مداخل القرى الشيعية الواقعة على شارع البديع شمال البلاد، تحت ذريعة وجود ” مخربين ” يعملون من تحت الارض، ويستوجب القضاء عليهم، الامر الذي أربك الساحة البحرينية، وبدأ الانقسام في الرأي يظهر على سطح الاحداث، بين رأي يطالب باستمرار الاحتجاجات الساخنة ضد السلطة، التي نقضت وعودها والتزاماتها بمعالجة الوضع ونشر الاستقرار، وبين رأي متفائل بانتظار الوعود الرسمية التي اطلقت بشأن حلحلة الاوضاع المأزومة بصورة تدريجية بعيدا عن المواجهات العنيفة .
وفي كل الاحوال، وبعد استمرار كافة المظاهر السلبية التي برزت على سطح المسرح السياسي البحريني، والتي ظلت تفتعلها السلطة البحرينية من خلال المساومات والمماطلات في حل الازمة، خابت آمال شعب البحرين برمته، بتحقيق بوادر انفراجات سريعة ومعقولة، أو حتى وجود أي تقدم طفيف وإيجابي في شأن المفاوضات المعقودة مع أعضاء تلك اللجنة، وذلك عندما رفضت السلطة البحرينية، تنفيذ كافة الالتزامات والتعهدات، التي قطعتها على نفسها تجاه تحقيق بنود الاتفاق الذي أبرمته مع لجنة المبادرة الوطنية في داخل السجن.
وبقاء العديد من السجناء والمعتقلين الموقوفين على ذمة التحقيق، بمثابة رهائن في معتقلات وسجون البحرين، واعتقال الكثير من المواطنين على خلفية تلك الاحداث، وإبعاد عوائل بكاملها ومواطنين أفراد إلى الخارج مرة أخرى، بل وقد تم تقديم وجبات أخرى من المعتقلين السياسيين، إلى محاكم أمن الدولة سيئة الصيت، وإعدام بعض المواطنين الابرياء، بعد محاكمات صورية أمام تلك المحاكم، إضافة إلى عدم مباشرة الحوار السياسي مع جميع قوى الصف الوطني الديمقراطي والإسلامي الممثل في العريضة الشعبية، وإطلاق التصريحات المتعالية العنترية من قبل كبار المسؤولين البحرينيين حول توجهات الانتفاضة الدستورية، واعتبارها تحمل الطابع الطائفي، وهي مسيسة من الخارج، وغير ذلك من الاتهامات والمزاعم الموهومة، التي ظلت تبثها بكثافة عبر وسائل اعلامها الرسمية وغير الرسمية .
السلطة البحرينية تنقض الوعود والالتزامات:
ولكن عندما شعر قادة لجنة المبادرة الوطنية، بالغبن والوقوع فريسة في فخ الخديعة الكبرى، التي حاكها ضدهم كبار المسؤولين في وزارة الداخلية البحرينية وعلى رأسهم قائد جهاز المخابرات العميد ايان هندرسن، بهدف المماطلة والالتفاف على جميع النصوص والبنود الحيوية للاتفاقية الامنية، وبالتالي التوجه لصرف النظر عن تحقيق المطالب الشعبية المطروحة والمنشودة، لجأوا إلى ممارسة الأساليب المتطورة والحضارية التي تتطلبها المقاومة المدنية، فقرروا القيام بالاعتصام الاحتجاجي السلمي في مجلس سماحة الشيخ عبدالامير الجمري.
وعندما شاركهم آخرون من رجال الدين والمثقفين ورموز الحركة الدستورية في الاعتصام، واحتشدت الجماهير المؤيدة للاعتصام في محيط منزل سماحة الشيخ الجمري، حاصرت قوات الأمن مكان الاعتصام ومنعت المواطنين من الوصول إليه واخذت تضرب بقسوة بالغة الشدة والعنف، كل من وقع في قبضتها من النساء والرجال والأطفال والشيوخ، وبدأ من الواضح حينذاك أن دورة العنف والعنف المضاد على وشك أن تتجدد مرة ثانية في البلاد، وهو الأمر الذي قد حدث، حيث ضربت السلطة البحرينية بعرض الحائط كافة الوعود والالتزامات، بعد أن شعرت بأن الامور قد هدأت في الشارع بفضل فرض القبضة الفولاذية الامنية على المجتمع، وبعد أن كرست كافة الجهود لاختراع الحجج المزيفة والاكاذيب بانها لم تدخل في أي التزامات مع قيادات لجنة المبادرة الوطنية، وما حدث هو انها اجتمعت معهم وتحدثت حول السبل الكفيلة بتهدئة غليان الشارع ومنع التفجير الذي لا يحمد عقباه .
رسالة مكشوفة ومفضوحة :
ومع ذلك، فقد أصدرت قيادة لجنة المبادرة، بيانا تدعوا فيه كافة المواطنين إلى ضرورات ضبط النفس والالتزام بالهدوء، وعدم الانجرار وراء الاستفزازات التي ظلت تمارسها قوات الأمن للتصدي لهم، وعدم الرد عليها إلا باستخدام الاساليب الحضارية العصرية. وبعد مرور إسبوع واحد فقط على الاعتصام، قامت السلطة البحرينية، بنشر رسالة مشبوهة، على صفحات الصحف البحرينية، إدعت في طياتها بأنها كانت موقعة من قبل سماحة الشيخ عبدالامير الجمري وجميع رفاقه، من قادة المبادرة الوطنية.
وقالت بأن جميع الموقعين على هذه الرسالة “يأسفون لكل ما حدث في البحرين بسببهم، ويعتذرون لأمير البلاد عيسى بن سلمان آل خليفة، على كل ما بدر منهم من تصرفات طائشة وخاطئة، أدت بدورها إلى الاضطرابات وأعمال العنف، التي شهدتها البلاد منذ تفجر حركة الاحتجاجات، وإنهم يعلنون توبتهم وولائهم التام للامير ” المفدى ” عيسى بن سلمان آل خليفة، وما أكدته سطور هذه الرسالة، نفاه وبشكل قاطع سماحة الشيخ الجمري ومعه جميع قادة المبادرة الوطنية، الذين أعلنوا للجماهير في وقت لاحق: “أن كل ما جاء في مضمون رسالة وزارة الداخلية، المنشورة في مختلف وسائل الاعلام البحرينية، وفي الصحافة العربية والعالمية على حد سواء، هو ليس أكثر من مجرد محظ إفتراء على الحقيقة والواقع، ومحاولة ابتزاز وتزوير مكشوفة من قبل العميد ايان هندرسون واجهزته المخابراتية القمعية، لكل ما صدر عنهم من أقوال وتصريحات جادة وواقعية، خلال فترة المفاوضات مع المسؤولين في وزارة الداخلية البحرينية حول خيوط المبادرة الامنية”.
ومن خلال هذه المحاولة الانقلابية المكشوفة على التعهدات والمواثيق، يتضح عجز السلطة وإفلاسها السياسي والاخلاقي، وعدم مصداقيتها الواقعية والجدية، وتهربها عن تنفيذ الالتزامات والتعهدات التي قطعتها على نفسها وأمام المجتمع البحريني لتحقيق الأمن والاستقرار ومعالجة أسباب الأزمة السياسية بالحكمة والتعقل. وبدلا من معالجة جذور الازمة، ووضع الحلول العادلة والشاملة لتلك المحنة، قام الحكم بافتتاح جولات جديدة من الصراع العنيف ضد جماهير الانتفاضة الشعبية الدستورية، التي تزايدت قوتها وعنفوانها في النضالات التنظيمية والمعنوية ودخلت بعدها في مسارات جديدة وابتكارات نضالية رائعة في فنون المقاومة المدنية.
وعبرت فئات واسعة من جماهير شعب البحرين عن انخراطها في صفوف جماهير هذه الانتفاضة المباركة، وفي الصراع القائم بين السلطة والمعارضة، سواء في المهرجانات الحاشدة لاستقبال المواطنين المفرج عنهم، أو في اللقاءات العامة والخطابات التي ألقيت في مثل هذه المناسبات، من قبل ممثلي التيارات السياسية والدينية، أو في تشييع جنازات الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن قضايا الوطن ومستقبل الشعب وأجياله الجديدة الصاعدة، وفي غير ذلك من الممارسات السلمية المدنية والمتحضرة، مثل توزيع المنشورات التي تدعو للوحدة الوطنية والتعايش السلمي المجتمعي، ومقاومة الظلم والاستبداد، وإشعال الإطارات وإطفاء أنوار المنازل بشكل مؤقت واشعال الشموع والامتناع عن التسوق لعدة ساعات والتصدي لمحاولات قوات الأمن بمختلف وسائل الدفاع عن النفس، وليس باستخدام أساليب الردع غير القانونية لمواجهة جحافل قوات الامن المنتشرة في عموم البلاد وتمارس دورات العنف والبطش الموجع بالمواطنين المطالبين بابسط حقوق المواطنة المشروعة.
شخصيات وطنية وإسلامية دعت السلطة البحرينية إلى اجراء حوار وطني حقيقي ومسؤول :
وإلى ذلك، دعت مختلف فصائل المعارضة البحرينية، من خلال بياناتها المتكررة، السلطة البحرينية إلى إجراء حوار وطني مسؤول، لمعالجة دوامة الازمات التي عصفت بالبلاد في الفترة التي شهدت حملات القمع المسعورة بعد فشل المفاوضات مع وزارة الداخلية، وشددت على أن الخروج من دوامة الازمة (الراهنة)، تكمن في إستجابة السلطة البحرينية، لمطلب الحوار والمصالحة الوطنية الصريحة والجادة، والتي من خلالها يمكن تمهيد السبيل لتحقيق كافة المطالب الشعبية المنشودة.
وقد وقع قرابة 250 شخصية وطنية وإسلامية في البحرين، بينهم أعضاء من المجلس الوطني المنحل في العام 1975 بعد الانقلاب على دستور البلاد الشرعي وتعطيل أبرز مواده الحيوية، ومحامين ومهندسين وأطباء ومدرسين وطلاب جامعيين ونقابيين ورجال دين وشخصيات نسائية بارزة، على عريضة وطنية، تدعوا فيها السلطة البحرينية، إلى الاستجابة الحتمية لجميع المطالب الشعبية المحقة والمشروعة، وإلى تكتيل كل الصفوف الوطنية الديمقراطية والإسلامية المناضلة، على نداء من اجل حياة ديمقراطية، في البلاد، وقد تم تداول هذا النداء في 17 نيسان/ ابريل من العام 1995 على نطاق واسع في البحرين .
بيان لجنة التنسيق بين الجبهة الشعبية في البحرين وجبهة التحرير الوطني البحرينية، وتضامن حركات التحرر العربية والصديقة مع قضايا شعب البحرين:
وبالتزامن مع فترة اعتصام قادة المبادرة الوطنية واضرابهم عن الطعام في منزل سماحة الشيخ عبدالامير الجمري، أصدرت لجنة التنسيق بين الجبهة الشعبية في البحرين وجبهة التحرير الوطني البحرينية، بيان سياسي مطول تدين فيه الاجراءات القمعية للسلطة البحرينية ونقضها لكافة الوعود والتعهدات التي قطعتها على نفسها وامام قادة المبادرة الوطنية خلال الاجتماع الذي تم في وزارة الداخلية، وطالبتها باحترام الارادة الشعبية والتحلي بالحكمة والتعقل والمنطق، والتوقف عن الممارسة الاستبدادية القمعية، وفك الحصار الامني المفروض بقوة على مختلف مناطق الاحتجاجات، ووقف مداهمات البيوت الآمنة، ووقف حملات الاعتقال التعسفي خارج اطار القانون، والعمل على اجراء حوار وطني مسؤول مع جميع تيارات وفصائل الحركة الوطنية والاسلامية والشخصيات السياسية المستقلة، للخروج من المحنة ودوامة الازمات الخطيرة التي عصفت بالبلاد .
وإلى ذلك، لعب الامين العام للجبهة الشعبية في البحرين، المهندس عبدالرحمن محمد النعيمي، وبوصفه الناطق الرسمي لحركات التحرر العربية المتواجدة في دمشق، دور مهم ومثمر نحو حشد تأييد جميع حركات التحرر العربية والصديقة لنضالات شعب البحرين ودعم مسيرته للحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، حيث أعربت جميع هذه الحركات في بيان مشترك، عن تضامنها مع شعب البحرين في نضالاته المطلبية المحقة، وطالبت السلطة البحرينية بممارسة ضبط النفس في تصديها لحركة الاحتجاج السلمية، والعمل على ايجاد مخارج معقولة لحل الازمة السياسية والامنية في البحرين وتحقيق كافة المطالب المشروعة التي اجتمعت حولها الارادة الشعبية، والالتزام التام والكامل بالتعهدات الدولية ذات الصلة بقضايا الديمقراطية وحقوق الانسان .
وقد شكل ذلك الاصطفاف الوطني الواسع النطاق، أبلغ الردود على إدعاءات السلطة البحرينية وجميع أبواقها في الداخل والخارج، التي قالت، بأن حركة الانتفاضة الدستورية، لا تمثل سوى طائفة معينة من الطوائف البحرينية، وهي أقلية صغيرة من السكان، وإنها مدفوعة من قوى خارجية تحاول تعكير صفو الامن والاستقرار في البلاد، ويشكل هذا الاصطفاف، أسهاماً ملموسا في تكتيل كافة الإمكانيات والفعاليات الوطنية والإسلامية، كجزء من الجهود المبذولة للوصول إلى اصطفافات شعبية حاشدة في المستقبل، ولكن السلطة البحرينية، من جانبها رفضت بقوة كل هذه المساعي والمناشدات الحميدة، وأقدمت على سلسلة واسعة من حملات الاعتقال التعسفي في صفوف المواطنين، الذين دعموا دعوات الحوار والمصالحة الوطنية، ومارست ضد القادة الوطنيين والاسلاميين، نهجا قمعيا يحمل شتى الوسائل الرادعة والمحرمة دوليا .
الحلقة الثانية .. حقائق القمع والقتل، وكيف صار يحلم ولي العهد ووزير الدفاع حمد بن عيسى آل خليفة، بأن يصحوا ذات صباح ويجد جميع القرى الشيعية في البحرين غارقة في أعماق البحر .
هاني الريس
24 تموز/ يوليو 2021