بداية نهاية “إسطورة الجيش الذي لا يقهر”
إسرائيل بدأت تقترب من نهاية حلم “دولتها المستقلة في أرض الميعاد”
قبل أقل من اسبوعين تغير الصراع الاسرائيلي ـ الفلسطيني من مواجهات شرسة بين المدنيين في القدس وحي الشيخ جراح، إلى حرب ضروس بين جيش الاحتلال الصهيوني، وفصائل المقاومة المسلحة الفلسطينية، استخدمت خلالها مختلف الاسلحة الثقيلة والصواريخ والطائرات الحربية، لكن إذا كانت الحروب المسلحة تقبل التفاوض فيها واعلان الهدنة بشكل مؤقت أو طويل الأمد، فأن الصراع الوجودي لا يقبل أبدا بالمفاوضات والمساومات والحلول الوسط، لأن المواقف والمطالب تبقى راسخة وثابتة على حالها وتتصل مباشرة بالمصير .
كذبة الاسطورة العنفوية :
في 27 يوليو/ تموز 1948 بدأت جحافل العصابات الصهيونية، التي وصلت إلى فلسطين في ذروة موجات الهجرة إليها من مختلف مناطق الشتات اليهودي، الملقبة ب ” الهاجاناه ” والتي شكلت مقدمة النواة الاولى لجيش الدفاع الاسرائيلي، بشن حربها الضروس ضد السكان العرب الاصليين المسلمين والمسيحيين ومختلف الطوائف الاثنية غير اليهودية في فلسطين، التي كانت في ذلك الوقت تحت الانتداب البريطاني، وفي نفس ذلك التاريخ أعلنت المؤسسة اليهودية الاسرائيلية عن تأسيس ” دولة اسرائيل الكبرى المستقلة ” بعد أن تمددت جغرافيا في معظم المناطق الفلسطينية، وبسط كامل سيطرتها ونفودها على الأرض والكيان السياسي، الذي رسم في خريطة قرار التقسيم، وبعد أن تصدى جيش الدفاع الاسرائيلي للهجوم العسكري الذي شنته ضدها جيوش الدول العربية المجاورة والمحيطة بها، المعروفة ب ” جيش الانقاد ” ووضعت المؤسسة الصهيونية الشعب الفلسطيني برمته فريسة لمشروعها الاستيطاني الجهنمي. وفي ذلك الوقت أيضا مع بدء الهدنة الاولى لما سمي بحرب ” الاستقلال ” الاسرائيلية واعلان الدولة في فلسطين، جرت مراسم الاحتفالات ب ” أعياد النصر ” وقيام الدولة، واعلنت عن ” يوم تيودور هرتزل ” المفكر اليهودي المجري، الذي أسس المنظمة الصهيونية وشجع على الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والذي أصبح يعرف في ما بعد باسم ” الأب الروحي للدولة اليهودية ” وذلك احياءا لذكرى وفاته في العام 1904.
وفي العام 1949 تم الاحتفال ب ” يوم تجميع الشتات اليهودي ” واعتبر يوم 11 آذار/ مارس 1949 ” يوم الهاجاناه ” الذي قصد به خلق يوم موحد لجميع اليهود وأساطير بطولاتهم العنفوية للعهد الصهيوني الجديد، والذي كان يربط ما بين فترة بسط السيطرة والنفود اليهودي على الارض الفلسطينية وما بعدها.
وفي العام 1950 جرى الاعلان عن يوم ” لذكرى احتلال إيلات ” التي تعرضت لمجازر وحشية على أيادي عصابات الصهاينة، ولكن بسبب ضعف الموارد المالية التي كان يحتاجها تنظيم ذلك الاحتفال المهيب، وبسبب التبديد السريع للحماس الشعبي، الغي ذلك الاحتفال، واختزلت معظم الاعياد القومية اليهودية في يوم واحد، وهو ” يوم الاستقلال ” التي كانت قد حققت فيه الدولة العبرية أكبر وأهم انتصاراتها الدموية ضد السكان العرب في فلسطين.
وعلى امتداد تلك العقود الطويلة التي مضت، ظلت اسرائيل تفاخر بقوة عظمتها وجلال هيبتها ومكانتها بين الامم، وذلك عبر ما قيل عن نظامها الديمقراطي، وصمود جيشها ” المهيب الذي لا يقهر ” في وجه الاعداء ـ بحسب ـ المنطق والدعاية اليهودية، حيث كان هذا الجيش المحمي بحراب قوات الانتداب البريطانية، معنيا باظهار قوته وتفوقه ازاء الداخل والخارج على حد سواء، والذي كان قد حظي في تلك الايام بالغلبة وحقق انتصارات على الارض بواسطة الدعم العسكري المكثف والتسهيلات اللوجستية البريطانية، ولكن على الرغم من أن هذا الجيش قد أراد أن يستعرض عضلاته في غالبية المناطق الخاضعة للدولة العبرية لتأكيد قوته وتفوقه باقامة عروض عسكرية مهيبة في المناطق التي تمت السيطرة عليها بالقوة وفرض النفود، وبالفعل قد حظى باقامة عروض عسكرية في مناطق بئر السبع، والرملة، وعكا، وحيفا، وهي مناطق كانت الدولة مهتمة باظهار سيطرتها عليها بعد ” تحريرها ” وتهجير سكانها العرب، فان الجيش قد واجه معضلة في اجراء عرض عسكري في مدينة القدس، حتى لو كان الأمر ضمن قوة رمزية، وذلك بسبب عدم الاعتراف الدولي بالقدس كعاصمة لدولة اسرائيل، كما أن السيطرة على المدينة لم تحظى بشرعية دولية، ولذلك تخلت الدولة العبرية عن فكرة اقامة عرض عسكري مهيب في مدينة القدس .
ولكن في العام 1950 والعام 1951 استطاع جيش الدفاع الاسرائيلي، ان يجري بعض هذه العروض الرمزية في القسم الغربي من مدينة القدس، التي كانت تسيطر عليه الدولة العبرية وفق ما جاء في خارطة ” الخط الأخضر” ولكن ذلك قد تم ببعض الشروط، حيث أن اتفاقية الهدنة بين اسرائيل والعرب، حددت حجم القوات التي تدخل القدس، وكذلك نوعية الاسلحة الثقيلة، وبذلك تعسر على الجيش استعراض قوته في المدينة بالشكل الذي يريد أن يبرز فيه هيبته، وقد تراوحت السنوات الثماني الاولى من العروض العسكرية، ومن الوجود السيادي لكيان الدولة الصهيونية المستقلة، ما بين مشاعر الغرور بالقوة الضاربة، التي تولدت عن نتائج حرب العام 1948 التي أفضت بدورها إلى تغييرات ديموغرافية واسعة النطاق في البنية السكانية في فلسطين، وبين فكرة التهديد الوجودي الدائم والمستقر، وكيف يمكن التصدي له بشتى السبل، وقد كادت الصعوبات الاقتصادية والمشاكل الاجتماعية والأمنية، التي واجهت الدولة الفتية في ذلك الوقت، أن تعصف بمعظم مرتكزات البناء الاساسي التي شيدته على أشلاء الدماء الغزيرة وأحلام التمسك بالارض، لو لا اتفاقية التعويضات المالية، التي حصلت عليها من المانيا الاتحادية، بسبب ما وصف ب ” المحرقة اليهودية الكبرى ” في عهد الدولة النازية الالمانية بقيادة الدكتاتور ادلف هتلر، في نفس الوقت فان اتفاقيات الهدنة بين اسرائيل والدول العربية، لم تؤدي بشكل أو آخر إلى سلام مضمون، وذلك لعدة اسباب منها رفض اسرائيل بالحدود الدولية التي اقرتها الامم المتحدة، وعدم قبول عودة اللاجئين الفلسطينيين، واصرار الفلسطينيين والدول العربية على رفض فكرة تقسيم الارض، والمطالبة باستعادة كل شبر من أراضي فلسطين التاريخية، وهي شروط نظر إليها الاسرائيليين في ما بعد بانها ” شروط انتحارية ” لأن الدولة كانت تصر بشدة على تحقيق حلم أرض إسرائيل الموعودة، أو ” أرض الميعاد ” الازلية الممتدة مساحتها الشاسعة من النيل إلى الفرات، والتي هي بحسب العقيدة الدينية اليهودية ” تفوق في قدسيتها أي أرض أخرى لارتباطها ب “شعب الله المختار”.
بداية نهاية جيش الاسطورة العنفوية :
ظل جيش الدفاع الاسرائيلي، الذي حقق معجزة انتصاراته الملهمة في أرض الميعاد ـ بحسب ـ الرؤية الصهيونية، في العام 1948 عنوانا بارزا لنشر الدعاية الكبرى حول جبروت وقوة الآلة العسكرية الاسرائيلية، والتي كان يجري التفاخر بها داخليا وعلى المستوى العالمي، غير أن هذا الجيش الذي ووصف ب ” الاسطورة العنفوية ” خاض معارك القتال داخليا وعلى مستوى جبهات الخارج، ليس بفضل قوة فعل وارادة هذه الاسطورة المزعومة، وانما خاض كل معاركه العنفوية بواسطة حراب دولة الانتداب البريطانية، الحامية والحاضنة للمشروع الصهيوني، والتي ظلت على الدوام ترفده بالمال والسلاح والعتاد ومختلف التجارب العسكرية، وعلى الرغم من كل روافد هذا التسلح والخبرة العسكرية والاستخباراتية و ” الصمود الاسطوري ” المزعوم، فقد ضعفت واهتزت هيبة جيش الدفاع الاسرائيلي، تحت وقع الضربات القاسية والموجعة التي واجهها في حروب السنوات الاخيرة مع جيوش الدول العربية، سواء على مستوى حرب تشرين/ اكتوبر 1973 التي تعتبر رابع الحروب العربية الاسرائيلية التي شنتها مصر وسوريا على اسرائيل بعد حرب العام 1948 وحققت فيها الدولتين انتصارات واضحة وملموسة على ارض الواقع، أو في حرب تموز/ يوليو 2006 التي تعتبر حرب لبنان الثانية، والتي كانت قد استمرت تحث الخطى على مدى 34 يوما، وواجهت خلالها قوات حزب الله اللبناني، جيش الدفاع الاسرائيلي ” الذي لا يقهر ” بكل عزيمة وارادة وشراسة، وتصدت له ببسالة لا مثيل لها في تاريخ الحروب الاسرائيلية العربية الحديثة، واجبرته على التراجع والتقهقر والعودة سريعا إلى تل أبيب محملا معه عار المذلة الشنيعة، في نفس الوقت الذي كانت قد سطرت فيه قوات حزب الله اللبناني، نصرا مؤزرا ليس للبنان وحدها بل للامتين العربية والاسلامية، وقبل ذلك في حرب تحرير الجنوب اللبناني في 25 آيار/ مايو 2000 التي قضى فيها حزب الله اللبناني، على صمود هذا الجيش المحتل ومرتزقته في الجنوب، وطوى من خلالها صفحات كاملة من السيطرة والهيمنة الاسرائيلية على مناطق الجنوب اللبناني، أو في حرب قطاع غزة في صيف العام 2014 التي شنتها قوات جيش الدفاع الاسرائيلي بكل حقد دفين وشراسة على مختلف مناطق هذا القطاع، واستمرت قرابة 51 يوما، وتكبدت خلالها اسرائيل خسائر فادحة في الارواح والعتاد والمنشآت الحكومية والعسكرية المهمة، وذلك بفعل صمود جميع قوات المقاومة الفلسطينية واصرارها على المواجهة الشديدة وردع العدوان بمختلف صواريخها العابرة إلى عمق أراضي دولة الاحتلال .
اليوم، وبعد أن غامرت قوات جيش الدفاع الاسرائيلي بالهجوم على غزة لاسكات اصوات الناس الذين نددوا بالمجازر الوحشية التي يتعرض لها اشقائهم العرب المقدسيين، تجرعت أيضا تلك القوات مرارة كأس المذلة والعار، ووقفت عاجزة خانعة عن مواجهة ضربات فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، التي ارادت أن ترد لها الصاع صاعين وتكسر شوكتها وتمرغ أنوفها في التراب، رغم كل الخسائر التي واجهتها من تدمير المبان والمقار الرسمية وغير الرسمية والمنشآت العامة والخاصة، وسقوط مئات القتلي والجرحي، وتهجير الاعداد الهائلة من المدنيين الابرياء، والتي تم خلالها أيضا انتهاك حرمة المقدسات الاسلامية في مدينة القدس المحتلة.
وعلى الرغم من أن اسرائيل، ظلت تروج لانتصاراتها الأخيرة في غزة، ولفكرة انها مازالت قادرة على فرض ما تريد وترغب على الفلسطينيين في جميع الاراضي المحتلة، وكذلك في الحرب الدائرة رحاها في قطاع غزة، إلا انه كان من الواضح جدا هو أن حجم ردود الافعال الفلسطينية تجاه غطرسة قوات جيش الدفاع الاسرائيلي، أدت إلى كشف جوانب ضعيفة واهتزازات واضحة في بنيته القتالية العسكرية، وفي قوة درجات إمساكه بزمام الامور في هذه الحرب، وهو ما قد ظهر واضحا كوضوح الشمس، من خلال شل قدرته على مواجهة الصواريخ الفلسطينية العابرة للمناطق الحدودية القريبة من غزة وكذلك في عمق الداخل الاسرائيلي، وذلك بالرغم من وجود نظام الحماية الصاروخي ( القبة الحديدية ) التي ظلت تتفاخر بها إسرائيل أمام العالم، والتي كلفت موارد خزينتها العامة أكثر من 210 ملايين دولار اميركي، ولم تستطيع أن يوفر لها حتى أقل الحماية المطلوبة، فهذا الجيش العرمرمي الغاشم والمغرور باسطورة هيبته وتفوقه، استطاعت قوات المقاومة الفلسطينية المسلحة، التي لم تجد أحدا من الدول العربية من يدعمها عسكريا حتى للدفاع عن نفسها، غير قوة ارادتها في الصمود، أن تحشره في جميع الزوايا الضيقة، وتفرض عليه التراجع والانكماش، وبحيث أنه لم يستطيع مواجهة الند بالند، إلا عبر استخدامه للقوة الفتاكة بواسطة الطيران الحربي ومنهجية تدمير البنى الاساسية لكافة القطاعات في غزة وقتل الابرياء من المدنيين وتشريد الالاف وتهجيرهم وهدم منازلهم على رؤوسهم، وهذه الصورة الجنونية التي يستخدمها جيش الدفاع الاسرائيلي ضد الابرياء في غزة، لا توحي إلا بشيء واحدا فقط وليس هناك أي شيء آخر سواه، وهو انه أصبح اليوم على وشك سقوط هيبة اسطورته العسكرية العنفوية، وبالتالي بداية الانهيار والاندثار لعرين الدولة اليهودية المستقلة المزعومة في أرض الميعاد.
هاني الريس
20 أيار/ مايو 2021