(٢ من ٢) ما أشبه اليوم بالبارحة
الانقلاب على ميثاق العمل الوطني، والدستور، والوثيقة التصالحية مع المجتمع
في غمرة أعراس الانفراج السياسي، التي شهدتها البلاد على مدى عام كامل، بعد أقرار مشروع ميثاق العمل الوطني، والكذبة الكبرى عن قيام مشروع الاصلاح، والأيام الجميلة الموعودة، كان حاكم البحرين، حمد بن عيسى آل خليفة، يمهد الطريق للانقلاب النهائي على دستور البلاد العقدي، والتخلي عن كافة الوعود والتعهدات الكثيرة، التي أقسم على الالتزام بها في خطاباته النارية، التي فجرها في بداية عهده، وتسلمه مفاتيح العرش، وقد شاهده الجميع، في خطاب متلفز موجه الى شعب البحرين، وحكومات الدول العربية والعالمية، يتحدث فيه الحاكم الجديد في البحرين، عن استعداده لعقد مصالحة وطنية شاملة وحقيقية، واجراء عمليات إصلاح أشمل لإدارة أمور البلاد برمتها، وبداية عهد جديد مزدهر بالحياة الديمقراطية والحريات والسلم الأهلي، وأيام جميلة قادمة محملة بجميع الملذات، وأنه سيظل خادما وأمينا للدستور ولتكريس وتعزيز مهام السلطات التنفيذية والقضائية وحكم القانون، وأن ميثاق العمل الوطني، الذي مهد الطريق لتحويل البحرين من دولة مراقبة أمنية، إلى مملكة، سيكون فقط بمثابة جسر للانتقال السلس والتدريجي، إلى نظام المملكة البرلمانية الدستورية العصرية، وليس كبديل محتمل عن دستور البلاد الشرعي للعام 1973، الذي وقع عليه والده الراحل بحروف عريضة.
ولكنه بعد أن استكمل جميع خطوات هذا المشروع، وحصل على أصوات حوالي 98.4 في المئة ممن صوتوا لصالح مشروع الميثاق، وذلك بعد أن أوعزت القوى الاسلامية والوطنية لجماهيرها بالتصويت لصالحه، على أساس أن هناك تحول في الساحة البحرينية، واستعداد النظام لفتح آفاق واسعة للمصالحة مع المجتمع، وبموجب ذلك رحبت الغالبية الشعبية وصفقت وهللت ورقصت للكلام المعسول، الذي وعدهم فيه حاكم البلاد، بأحداث تغيرات جذرية في منهج العمل والأداء السياسي، وتحديث سلطات الدولة ومؤسساتها، وبالتالي انبثاق عصر جديد مزدهر ينسيهم ماضي السنوات العجاف، وما خلفته ورائها سياسة النهج القمعي، من مأسي وكوارث كثيرة.
ولكنه عندما أستطاع أن يستكمل مشروع المبايعة الشعبية، والشرعية الوجودية التاريخية للعائلة الخليفية في البحرين، التي كانت موضع خلاف عميق داخل المجتمع، أصبح بعدها رجل يتلون بمليون وجه “حمال أوجه”، وضرب بعرض الحائط جميع تلك التعهدات والمواثيق، وحتى كلام الشرف، الذي قطعه على نفسه وأمام المجتمع، وفي الوثيقة التصالحية المجتمعية الصريحة، التي وقعها بحروف من ذهب، في منزل عالم الدين الشيعي، سماحة السيد عبدالله الغريفي، بحضور حشد من علماء الدين البحرينيين، وعدد من الشخصيات الاجتماعية والسياسية البحرينية، والتي تعهد خلالها باجراء مصالحة وطنية شاملة وحقيقية، والابقاء على دستور البحرين الشرعي للعام 1973 ساري المفعول، من دون تغيير أو تلاعب في احدى نصوصه أو بنوده، وتطبيق جميع مواد ميثاق العمل الوطني بحذافيرها، وتعهد بعد أنتهاء سماحة السيد عبدالله الغريفي، من تلاوة نص وثيقة المصالحة الوطنية، بضرورة قيام “نظام بديل” في البحرين، وقال، أنه سيبرأ نفسه من أية علاقة بما كان يجري في الماضي، وآن الأوان لكي لا نحيا في الماضي، بل في الحاضر مع التطلع للمستقبل.
وقال كلمته بكل وضوح أمام الجميع ” بكل المحبة والتقدير أضم صوتي معكم” وأردف “لا اعتقد بأنني سوف أبدأ عهدي في حكم البحرين بتفرقة الناس، وسوف أدشن ذلك العهد بالتوحيد بين جميع الناس في المجتمع” و “أن الدستور التعاقدي عمله عيسى بن سلمان مع شعبه، وأنا انشاء الله أبن بار لعيسى بن سلمان ولكم” و “انا من هذا المكان الذي نجتمع فيه، أتعهد وأجزم بتحقيق الحياة الكريمة لكل مواطن بحريني ورفع جميع المظالم عنه، ورفع مستواه الاجتماعي والاقتصادي”.
انظر إلى شريط الفيديو، خطاب السيد الغريفي لحاكم البحرين في 10 شباط/ فبراير 2001، لكي تشاهد بالصوت والصورة، كل هذا الحديث، ولكن للاسف الشديد، فأن جميع هذه الاقوال المنمقة والمعسوله، قد تبخرت وذهبت في مهب الرياح، عندما حاون وقت العمل، والتطبيق الحقيقي والفعلي على أرض الواقع، وأختار عوضا عن ذلك، أن يأتي في العام 2002 بدستور منحه جديد، تمت صياغة جميع نصوصه وبنوده واجراءاته، على مقاسات قامته، وداخل دهاليز الغرف المغلقة، وتحت اشراف مستشارين وخبراء قانونيين أجانب من غير البحرينيين، وذلك من دون استشارة أحد، وظلت بعيداً عن أعين الشعب والمراقبين والمحللين والصحافة المحلية والدولية، وذلك من أجل أن يستبدل به دستور البلاد الشرعي، المتوافق عليه بين الحكم والمجتمع، والذي وعد بأن يكون خادما وأمينا عليه.
وأعقب ذلك بوقت قصير، إجراء انتخابات نيابية هي الثانية في البحرين، بعد حل البرلمان المنتخب عام 1975 وتعطيل المواد الحيوية من الدستور، وسبقتها أيضا، في آيار/ مايو 2002، انتخابات المجالس البلدية، وكان كلاهما موضع جدل فقهي وقانوني ودستوري، حيث عارضت، ثم قاطعت الانتخابات التشريعية، أربع جمعيات سياسية مؤثرة على المسرح السياسي البحريني، يسارية وبعثية واسلامية، وهي (وعد، الوفاق، العمل الاسلامي، التجمع القومي الديمقراطي) وذلك احتجاجا على عدم شرعيتها الدستورية، والتوزيع غير العادل للدوائر الانتخابية الخمس، واقامة مراكز عامة هلامية للتصويت الشعبي، وأعلنت في بيان مشترك، صاغه وتلاه رئيس جمعية العمل الوطني الديمقراطي “وعد” المرحوم المناضل الوطني والأممي، عبدالرحمن محمد النعيمي :”إنها اتخذت قرارها بعدم المشاركة في الانتخابات، لكي لاتمنع تفسير المشاركة على انه إقرار من جانبها بالاحكام الدستورية، التي لا أساس لها في ميثاق العمل الوطني، أو تفسيرها على انها موافقة على ماتم سلبه من حقوق شعبية أصيلة، وإن إعطاء سلطة التشريع حسب الدستور الجديد للعام 2002، مناصفة بين المجلس النيابي المنتخب، ومجلس الشورى المعين، أدى إلى الانتقاص من سلطة الشعب في التشريع والرقابة، وادى إلى إفراغ النظام الدستوري من أهم مبادئه الديمقراطية، وهو أن السيادة للشعب، وهو مصدر السلطات جميعا، وكذلك مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث”.
في نفس الوقت التي أبدت فيه الجمعيات السياسية الأخرى، التي تمثل التيار الاسلامي السني، بالاضافة إلى جمعية المنبر الديمقراطي التقدمي اليسارية، رغبتها وموافقتها على خوض غمار هذه الانتخابات، تحت مبررات، تحمل المسؤولية الوطنية، وقناعتها بصحة وأهمية هذه الانتخابات، متجاهلة بهذا القرار، مواقف الأطراف المحلية الأخرى، التي رأت بأن نجاح هذه الانتخابات ليس ممكنا دون معالجة الشوائب والاخطاء البالغة، التي اعترت مشهد النظام الانتخابي المبني على حسابات دقيقة للغاية وممنهجة، وتصب في كل الأحوال لصالح طموحات السلطة السياسية والحكم، التي لاتريد إتاحة الفرصة لقوى المعارضة الوطنية الطموحة، في الوصول بأغلبية ساحقة إلى البرلمان، حتى لا تعد لاعبا مركزيا في مختلف قضايا التشريع وسن القوانين والاجراءات، التي تريد السلطة التفرد بها، وهذا يعني أن السلطة لم تكترث بأصوات غالبية الرأي العام البحريني، التي ظلت تصر على أن يكون النظام الانتخابي عادلا ومنصفا، حتى يتسنى لها قبول المشاركة في الانتخابات، وتتحمل مسؤوليتها التاريخية تجاه الشعب والوطن، ومواجهة كافة أنواع الظلم من استبداد وتسلط وتمييز طائفي وهيمنة فئوية، وتفرد فئة واحدة بعمليات صنع قرارات الدولة والمجتمع.
ولذلك فأن دعوات مقاطعة هذه الانتخابات، استجابت لها قطاعات واسعة النطاق من جماهير الشعب، الواعية والحريصة على المصلحة الوطنية العليا والمجتمع، ولولا لجوء الحكم الى إرهاب الناس ودفعهم دفعاً صارما للمشاركة تحت وطاة الوعيد والتهديد الشديد بقطع الارزاق، وتعطيل المصالح الاجتماعية والاقتصادية والفصل من العمل والدراسة، لكان مصير هذه الانتخابات قد ذهب في مهب الرياح، وتحت مطرقة وسندان هذه التهديدات المباشرة وغير المباشرة، أضطر الكثير من الناس البسطاء في الذهاب إلى صناديق الاقتراع، ليس من باب الحرص على تسجيل الحق الوطني الانتخابي، وانما هو خوفهم من شدة البطش وقطع الأرزاق.
وعندما جرت هذه الانتخابات، التي لم تستوفي كافة الشروط القانونية والدستورية والشفافية والنزاهة التامة، وكذلك ضعف المراقبة الدولية، اقترع الناخبون البحرينيون في جميع مراكز الاقتراع بأعداد قليلة جدا، وسط آلة أمنية اسطورية، وقوافل جماهيرية واسعة النطاق من أطياف المجنسين السياسيين والعشوائيين، تدفقت كالسيول الجارفة والكاسحة، من ارجاء، المملكة السعودية، واليمن، وسوريا، والاردن، لانقاذ النظام من ورطته، وتنفيذ كل ما يريده من خيارات، ومن أشخاص مسجلين على قوائم المرشحين، الذين يفترض أنهم موالين ومخلصين أشداء للنظام الخليفي، وفاز في هذه الانتخابات 40 مرشح، وكانت غالبيتهم من وجوه غير معروفة وغير مألوفة على مستوى الشارع البحريني، ولم يشهد لها قط أن دخلت عالم السياسة من قبل، وهي تنتمي بغالبيتها الساحقة إلى خط الموالاة للسلطة, وخسر حتى المرشحين المعتدلين المستقلين، في هذه الانتخابات.
وبالاضافة الى الاعضاء الـ (40) الفائزين في الانتخابات، قامت الاسرة الحاكمة بتعيين 40 عضواً لمجلس الشورى، المعروف بـ ” الغرفة الثانية ” في البرلمان، قيل بأنهم من أصحاب الخبرة والتخصص والجاه في المجتمع البحريني، ولكنه في الحقيقة تم اختيارهم على أساس واقع الولاء للسلطة، وليس على أساس المؤهلات العلمية التخصصية والكفائة والخبرة، ليشكلوا جميعاً الهيكلية المشتركة لما سمي بـ”المجلس الوطني” المزعوم، وعلى الرغم من مرور أربع سنوات من عمر هذا المجلس، فقد كان واضحا وضوح الشمس، بأنه كان ليس أكثر من مجرد دمية خشبية مهتريه، وأداة مطيعة في أيادي النظام، ولم يستطع تحقيق حتى أدنى مما كان يتطلع اليه شعب البحرين، في الديمقراطية والحرية والعدل الاجتماعي وحقوق الانسان، وفي مختلف الخدمات العامة، وإلى حد أصبحت فيه ثقة الغالبية الشعبية الساحقة معدومة، على حل المشكلات الكثيرة والصعبة في المجتمع.
وكما كان الحال بالنسبة لهذا المجلس الكسيح، والعاجز عن تشريع أي شيء مفيد ولمصلحة القضايا الشعبية، عجزت أيضا المجالس النيابية الأخرى التي تلتها عن تحقيق أي شيء يذكر من أجل خدمة القضايا الاساسية الجوهرية والملحة في المجتمع، سوى تلك الثرثرة الفارغة داخل قاعات تلك المجالس لأعضاء، ليس لهم أي تاريخ اجتماعي، وليس لهم أي أرث نضالي مشهود، وانما وصلوا إلى هذه المجالس عن طريق الصدفة، وكذلك التوصيات السلطوية إلى الناخبين الموالين، وبسبب المقاطعات الواسعة النطاق للانتخابات، وبالتالي أعتبروا من غير المؤهلين لتمثيل الشعب والنيابة عنه، في هذا المجلس التشريعي، وفي الواقع فأن الأمور ساءت بالنسبة لغالبية المواطنين البحرينيين، في ظل وجود تلك المجالس الصورية، حتى أصبح الكثير من الناس، يرى في المشاريع النيابية المطروحة أمام المجلس، مدعاة للضحك، واطلاق النكات الكثيرة على هؤولاء النواب، الذين ظلوا يعدون الشعب بمستقبل آمن وحياة سعيدة، ولكنهم للاسف الشديد، أصبحوا أسرى حقيقيين في أيادي النظام السياسي الخليفي، ويبصمون على كل ما كانوا يتلقونه من أوامر .
وطوال السنوات الكثيرة الماضية، التي أعقبت قيام “المملكة الخليفية الاولى” التي نهض بها من القمقم، حاكم البلاد، حمد بن عيسى بن سلمان بن حمد آل خليفة، وبطانته، ومؤسساته الصورية والوهمية، وأجهزته الحكومية الاستبدادية القمعية، ظلت الاوضاع في البلاد تسير من السيء إلى الاسوء، وخاصة في القضايا الحقوقية والاقتصادية والأمنية، وقد أصبح الأثر الذي تركته كل تلك القضايا الخاطئة والسلبية والعبثية، في تقدير المواطنين البحرينيين لذاتهم لا ينبىء بخير، وأنهم في الحقيقة، أصبحوا متشائمين للغاية حول المستقبل المنظور للبلاد، خاصة وان السلطة لازالت تضع العراقيل في وجه الاصلاح الحقيقي والجوهري، ولا زالت ترفض حل جميع المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والامنية، التي ظل يعاني منها المجتمع البحريني برمته، عبر عدة عقود مضت، كما ظلت ترفض الجلوس مع المعارضة على طاولة حوار وطني مسؤول لحل جميع تلك المشاكل.
وأصبح اليوم المزاج السيء الذي ينتاب المواطنين البحرينيين، هو الغالب في كل شيء، وهو سيد الموقف الآن، لانهم وجدوا أنفسهم مجبرين على مواجهة الظلم والحياة المعيشية الصعبة والقاسية، التي يعيشونها، ولم يظهر من الواضح، ما ان يكون هناك تغيير مرتقب في الأمور العامة، بعد رحيل رئيس الوزراء خليفة بن سلمان بن حمد آل خليفة، الرجل الذي جمع في يده كل خيوط اللعبة السياسية، وحكم البلاد بقبضة فولاذية صارمة، ومن دون أي منازع، وذلك في ظل قيادة الرئيس الجديد لمجلس الوزراء سلمان بن حمد بن عيسى أل خليفة، الذي ظل يعول عليه البعض بانه سيكون فارس المرحلة الاصلاحية الجديدة المنشودة في البحرين، وأنه أمل الحاضر الوطني ومستقبله، ولكن على ما يبدو فأن الاوضاع لن تتغير كثيرا وإلى ماهو أفضل من ذلك، مادام لايزال يوجد هناك تعنت وتصلب في الرأي، ومادام النظام السياسي القائم، يتجاهل كامل الارادة الشعبية، ويعتبر نفسه هو وحده فقط من يستطيع وضع الحلول والخيارات، وهو الآمر النهائي في كل شيء، فأن أمد الأزمة السياسية والامنية، سوف يدوم، وأن البلاد سوف تشهد حوادث كثيرة ومثيرة، ومراحل صعبة، من الضغوط السياسية والاقتصادية والأمنية، والتي نأمل الا تكون مرعبة ومخيفة .
هاني الريس
12 كانون الاول/ ديسمبر 2020